بقلم: رستم محمود – الحرة
الشرق اليوم- تظهر حادثة مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي، التأثير الشديد الذي يمكن أن تحدثه المجريات الليبية على محيطها الإقليمي، وإلى حد كبير المشهد العالمي.
فمعظم التحولات الشديدة التي جرت في هذا البلد الصحراوي طوال قرابة ثلثي قرن منذ استقلالها، بما في ذلك الصراع الحربي مع ليبيا نفسها في أوائل الثمانينات، لم تؤدِ إلى مثل هذا الحدث الاستثنائي، المتمثل بمقتل رئيس الجمهورية وقلب جوهر نظام الحكم، الشيء الذي فعلته مجموعات من المتطرفين القادمين من الأراضي الليبية، أثناء مواجهتهم للأجهزة الأمنية وفصائل الجيش التشادي، في عمق الصحراء الشاسعة الفاصلة بين البلدين.
ما ينطبق على دولة التشاد من حيث إمكانية تأثرها الشديد بطبيعة نظام الحكم وشكل الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية في ليبيا، ينطبق بأشكال مضاعفة على كامل المحيط الليبي.
فليبيا تجمع العديد من الخصائص التي يُمكن لتفكك أسس الدولة ومؤسسات تطبيق القانون العام أن تشكل خطرا على كامل محيطها، ويستحال إعادة ضبط أجزاءها ومؤسساتها فيما لو خرجت عن السيطرة.
فمن طرف تتصل ليبيا صحراويا بعدد كبير من دول وسط إفريقيا، حيث تسعى التنظيمات المتطرفة لإعادة هيكلة تنظيماتها في تلك المنطقة، من دولة مالي وحتى السودان، لتفتح ممرا إلى مصر نفسها، مستفيدة من تعدد طرق العبور وسيطرة الجماعات الأهلية القبلية على الكثير من المناطق، حتى أن أنظمة الحكم العرفية لتلك القبائل تتجاوز سيطرة الجيوش والمؤسسات الأمنية لتلك الدول.
كذلك فإن ليبيا تتوسط أربعة دول عربية رئيسية تملك معها جماعات الإسلام السياسي أشكالا من “الثأر”، بسبب فشل مشاريعها السلطوية في تلك الدول، بالذات في مرحلة الربيع العربي، من تونس والجزائر إلى مصر والسودان.
جماعات الإسلام السياسي في كل هذه الدول ترى في ليبيا إمكانية واسعة لاستيعاب عناصرها الفارة، ولإعادة تشييد تنظيماتها.
طبعا تستفيد من استمرار بقاء أشكال من تنظيمات الإسلام السياسي المسلحة في الداخل الليبي، المسيطرة على مناطق حيوية وذات سيادة في داخلها.
فوق الأمرين، فإن السواحل الليبية لا تبعد إلا كيلومترات قليلة عن نظيرتها الأوروبية، لكنها سواحل بخصائص استثنائية، فهي قليلة المدن، وبالتالي تفتح مجالا واسعا لإمكانية تنظيم شبكات التهريب العالمية لأنفسها في المناطق غير المأهولة منها، ونقل آلاف المهاجرين غير الشرعيين.
كما أنها سواحل سهلة الاستيعاب، رملية بأغلبيتها المطلقة، وتستطيع أبسط المراكب أن تستقر وتنطلق منها.
المشهد الجغرافي يضاف إليه عاملان سياسيان مركزيان: فليبيا كيان سياسي ذو إرث غير مركزي، خلال مرحلة حكم معمر القذافي، التي كانت مركزية بقوة السلطوية، وليس بحكم المؤسسات والهوية السياسية للمجتمع الليبي.
هذا التشظي الجغرافي- السكاني يعني في المحصلة بأن غياب مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية في جميع المناطق الليبية، سيفسح المجال واسعا أمام التدخلات الإقليمي، التي ربما تتجاوز دول الجوار، التي ستلاقي لها موطئ قدم.
تفتقد ليبيا الراهنة أيضا إلى نخب وقوى سياسية “وطنية” الانتشار، أي ممتدة على كافة مناطق البلاد، وذات خطاب وخيارات قادرة على “لملمة” البلاد، بمجموع خلافاتها السياسية وصراعاتها العسكرية.
وفي المحصلة، يظهر المشهد الليبي في الوقت الراهن، وبعد الجولات الماراثونية الطويلة من المفاوضات السياسية التي رعتها المنظمات الدولية، وأشكال التوافق السياسي والحكومي التي أبدتها القوى السياسية الليبية كل مرة، وكأنه ما يزال محملا بكل أشكال الهشاشة، وأنه أبعد ما يكون عن “الحل الناجز”، الذي قد يحول ليبيا إلى دولة آمنة، لمجتمعاته الداخلية ومواطنيه أولا، ولجيرانه والأمن الإقليمي والعالمي ثانيا.
ثمة قوى إقليمية ليس لها أي مصلحة في كل ذلك، وهي تُمعن في تفكيك أية محاولة جادة لضبط المشهد الليبي، ليأخذ مساره نحو الأمان الدائم.
لكن القوى الإقليمية تلك تستفيد من تفصيل واحد فحسب، كامن في سوء قدرة القوى المضادة على التصرف معها كجبهة واحدة، من الدول العربية مرورا بالإفريقية وليس انتهاء بالاتحاد الأوربي.