الشرق اليوم – على مر عدد من الليالي، أضرم محتجون شباب وموالون للحُكم البريطاني النار في أنحاء العاصمة بلفاست واشتبكوا مع الشرطة، فسقط عدد كبير من الجرحى خلال تلك الأحداث، ودعا رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، إلى التزام الهدوء قائلاً: “الحوار هو الحل لتجاوز الخلافات، لا العنف أو الإجرام”، لكنّ إيرلندا الشمالية وُلِدت في الأصل من رحم العنف.
تسود انقسامات عميقة بين مجموعتَين مختلفتَين من حيث الهوية (البروتستانت والكاثوليك) منذ تأسيس البلد، ويبدو أن إيرلندا الشمالية تتخذ اليوم وجهة قاتمة وأكثر خطورة، تحت تأثير خطة “بريكست”.
كانت جزيرة أيرلندا (يقع أقصى شمالها على بُعد 13 ميلاً من بريطانيا) أرضاً متنازعاً عليها طوال تسعة قرون على الأقل، وفي عام 1920، مهّد “قانون حكومة إيرلندا” لإنشاء إيرلندا الشمالية، أحدث عضو في المملكة المتحدة.
في هذا البلد الجديد، أصبح الكاثوليك الأيرلنديون الأصليون مجرّد أقلية، وهم يشكّلون أقل من ثلث العدد السكاني الذي يصل إلى 1.2 مليون نسمة في إيرلندا الشمالية.
وبسبب طريقة تقسيم المناطق، رفض القوميون الاعتراف بالدولة البريطانية، ورفض معلّمو المدارس الكاثوليك تلقي الرواتب من الدولة، بدعمٍ من قادة الكنيسة.
حين أنشأت أيرلندا الشمالية أول برلمان محلي في مايو 1921، لم يتسلم السياسيون القوميون مقاعدهم في المجلس، ثم أصبح برلمان أيرلندا الشمالية بروتستانتياً في جوهره، وحاول قادته الموالون لبريطانيا فرض مجموعة واسعة من الممارسات المعادية للكاثوليك، مما أدى إلى توسّع مظاهر التمييز ضد الكاثوليك في مجالات الإسكان العام وحقوق التصويت والتوظيف.
في 30 يناير 1972، خلال مسيرة أخرى لدعم الحقوق المدنية في مدينة “ديري”، فتح الجنود البريطانيون النار ضد المتظاهرين العزل، مما أسفر عن مقتل 14 شخصاً، فعُرِفت تلك المجزرة باسم “الأحد الدموي” وشكّلت نقطة تحوّل مفصلية، وسرعان ما تحوّلت الحركة السلمية التي تطالب بحكومة أكثر شمولية إلى حملة ثورية لإسقاط الحكومة وتوحيد إيرلندا.
استعمل “الجيش الأيرلندي الجمهوري” (جماعة قومية شبه عسكرية) القنابل ونفّذ اغتيالات مستهدفة ونَصَب الكمائن في سبيل الاستقلال عن بريطانيا وإعادة توحيد إيرلندا.
ردّت الجماعات شبه العسكرية القديمة، التي كانت تدعم القوى السياسية الموالية للمملكة المتحدة، بالطريقة نفسها، حيث تآمرت هذه الجماعات مع قوات الأمن الحكومية للدفاع عن وحدة أيرلندا الشمالية مع بريطانيا.
حصدت أعمال العنف هذه حياة 3532 شخصاً بين العامين 1968 و1998، ثم هدأت الاضطرابات في أبريل 1998 ووقّعت الحكومتان البريطانية والأيرلندية، إلى جانب أحزاب سياسية بارزة أخرى في إيرلندا الشمالية، على اتفاق سلام محوري بوساطة أميركية، فقد رسّخ “اتفاق بلفاست” ترتيباً لتقاسم السلطة بين الطرفين ومنح البرلمان في أيرلندا الشمالية صلاحيات إضافية لإدارة الشؤون الداخلية.
اعتُبِر ذلك الاتفاق تاريخياً، لكن بقيت أيرلندا الشمالية منقسمة جداً بسبب السياسات المبنية على هوية جماعاتها الداخلية وأدى الحُكم الشائب إلى شلّها على جميع المستويات، وتأجّجت أعمال العنف هناك بوتيرة متقطعة منذ ذلك الحين.
ثم أُقِرَّت خطة “بريكست” في عام 2020، وأدت مفاوضات بريطانيا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي إلى نشوء حدود جديدة في البحر الأيرلندي، ما أدى إلى إبعاد أيرلندا الشمالية عن بريطانيا اقتصادياً وتقريبها من إيرلندا، واستفاد القوميون من الفوضى التي أحدثتها خطة “بريكست” لتجديد دعواتهم إلى إجراء استفتاء حول إعادة توحيد أيرلندا رسمياً.
برأي الموالين لبريطانيا، يطرح هذا الوضع تهديداً وجودياً حقيقياً، إذ يخشى الموالون الشباب الذين وُلِدوا بعد حقبة الاضطرابات القصوى أن يخسروا الهوية البريطانية التي ينسبونها إلى أنفسهم دوماً. تنذر الاضطرابات المتجددة في الشوارع حديثاً بأن هذه الجماعة ستدافع عن الهوية البريطانية عبر استعمال العنف عند الحاجة، وفي بعض الأحياء، ردّ الشباب القومي على ما يحصل عبر استعمال نسخته الخاصة من أعمال العنف.
باختصار يبدو أن أيرلندا الشمالية، في الذكرى المئوية لتأسيسها، تتأرجح على حافة منحدر مألوف وشائك.
ترجمة: الجريدة
الوسومأيرلندا الشمالية بريطانيا مقالات رأي
شاهد أيضاً
أمريكا والمسكوت عنه!
العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …