بقلم: د. عبدالله المدني – صحيفة البيان
الشرق اليوم- في باكستان يقال: إن من يسيطر على البنجاب يحكم البلاد، وهو قول صائب، ليس فقط لأن هذا الإقليم هو الأكثر اكتظاظاً بالسكان، وليس بسبب موقعه الاستراتيجي المتاخم لحدود الهند وكشمير الباكستانية، وليس بسبب رمزيته من حيث تحوله إلى إقليم ذي أغلبية مسلمة، من بعد أن كان زمن البريطانيين ذي أغلبية سيخية وهندوسية، وإنما أيضاً بسبب كونه المخزن الكبير، الذي يغذي المؤسسة العسكرية بعناصرها من الجنود والضباط من مختلف الرتب.
وتتضح الصورة أكثر إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن الجيش الباكستاني كان ولا يزال هو الفاعل الأول في تقرير مصير البلاد وشؤونها، منذ نشوء الكيان الباكستاني كونه دولة مستقلة عام 1947.
تفصيلاً، تبلغ مساحة البنجاب الباكستانية 205.344 ألف كم مربع، ويسكنها نحو 45% من إجمالي عدد سكان البلاد البالغ تعدادهم 216.6 مليون نسمة، وتعد من أخصب الأقاليم الباكستانية الأربعة، بسبب أنهارها الخمسة، وانحدر منها العديد من الساسة، الذين لعبوا أدواراً سياسية خطيرة في تاريخ البلاد، لعل أبرزهم رئيس الوزراء السابق نواز شريف، الذي تولى قيادة البلاد ثلاث مرات غير متتالية، إلى أن حكمت عليه محكمة خاصة في عام 2017 بالسجن بتهمة الخيانة العظمى.
اليوم تواجه الحكومة تحدياً كبيراً من قبل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز)، الذي يحظى بنفوذ وشعبية كبيرة في البنجاب، بحيث باتت البنجاب مركزاً للصراع الوطني على السلطة، وبالتالي بؤرة صداع للحكومة، وحزب «تحريك إنصاف» الحاكم، خصوصاً أن باكستان خاضعة منذ انتخابات عام 2018 لما يمكن تسميته بـ«نظام الأحكام العرفية الهجين»، ناهيك عن أن نواز شريف صار في نظر الكثيرين، الوجه الأبرز للمعارضة، بعد أن أفَلَ نجم الوجوه السياسية التابعة لحزب الشعب الباكستاني (حزب أسسه رئيس الوزراء الأسبق ذوالفقار علي بوتو في عام 1967 في معقله بإقليم السند لإرساء نظام مدني ديمقراطي مستدام)، وضعف نفوذ الأخير وتأثيره الشعبي، لا سيما بعد انهيار تحالفه مع حزب الحركة الديمقراطية الشعبية (تحالف جبهوي غير مسبوق من 11 حزباً من أحزاب المعارضة، التي كانت في السابق مفككة هدفه إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة بأسرع وقت)، بسبب خلافات حول تقديم الاستقالات من البرلمان والمجالس التشريعية المحلية.
ولعل ما يقلق المؤسسة العسكرية أن البنجاب كانت تاريخياً منشأ للعديد من الحركات السياسية والاجتماعية المناهضة لها، لكن لم تكن تلك الحركات يوماً بقيادة أكبر الأحزاب السياسية المعارضة على الساحة، مثل حزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز)، على نحو ما هو حاصل اليوم، صحيح أن نواز شريف ومحازبيه كانوا من أوثق حلفاء المؤسسة العسكرية زمن الرئيس الأسبق الجنرال ضياء الحق في ثمانينيات القرن العشرين، لكنه اليوم يعد من أبرز خصومها، وتسيطر عليه نزعة الانتقام منها، بسبب ما تعرض له من مهانة ونفي وإقصاء من السلطة ثلاث مرات، الأولى في عام 1993 حينما أجبر على الاستقالة قبل إكمال فترته الدستورية، بسبب اتهامه بالمحسوبية والفساد، والثانية في عام 1999 بُعيد الانقلاب، الذي قاده الجنرال برويز مشرف ضد حكومته المنتخبة ديمقراطياً، والثالثة في عام 2013 حينما أبعد من الحكم بقرار قضائي على خلفية ما عرف بـ«فضيحة أوراق بنما».
ومن أسباب حنق شريف أيضاً أنه مقتنع بأن المؤسسة العسكرية وراء مساءلة ولديه حسن وحسين وابنته مريم، لتشويه سمعتهم ومنعهم من البروز سياسياً كونهم خلفاء له، وتقويض شعبيته في معلقه الرئيسي في البنجاب.
هذا ناهيك عن قناعته بأن الجيش دعم حزب «تحريك إنصاف» الحاكم لجهة سحب منصب كبير وزراء إقليم البنجاب، من شقيقه شهباز شريف، وإسناده إلى سردار عثمان بوز دار، المنتمي إلى الحزب الحاكم.
والجدير بالذكر أن تقارير حول فساد الأخير تسببت في قلق المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم إلى درجة الاتفاق على حجب الثقة عنه في المجلس التشريعي للبنجاب، لكن حجب الثقة كان بحاجة لاتفاق النواب الممثلين لحزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز)، والنواب الممثلين للفصيل المنشق عن الأخير، تحت اسم الرابطة الإسلامية (جناح قائد أعظم)، وهو ما رفضه شريف، بسبب موالاة جناح قائد أعظم للجيش.
جملة القول: إن شريف الذي كان يوماً ما يتعاون مع الجيش لإسقاط وإيذاء خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم الراحلة بي نظير بوتو، يجد نفسه اليوم في مواجهة العسكر خلال سعيه للعودة للحياة السياسية، والخطوة الأولى تتمثل في عودة سيطرته السياسية الكاملة على إقليم البنجاب، مثلما كان حاله في الثمانينيات، حينما انتخب رئيساً لحكومة الإقليم، ومنها صعد إلى حكم باكستان.
فهل ينجح الرجل، الذي انتخب وحكم وخلع وأدين ونفي مرات عدة، في العودة إلى السلطة مجدداً، وقد تجاوز السابعة والستين من العمر، أم أنه سيكتفي بتعبيد الطريق للجيل الجديد من عائلته؟