بقلم: محمد أبو الفضل – العرب اللندنية
الشرق اليوم- تعتقد السلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا أن إقامة توازنات بين الدول المتناقضة وعقد صفقات معها كفيل بإظهار حيادها أمام المواطنين، وأنها ليست محسوبة على جهة محددة، وأن لعبة توزيع الأدوار التي يقوم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة ستوقف التجاذبات السياسية والأمنية.
ظهرت ملامح التوجهات التبادلية في حرص المنفي والدبيبة على القيام بزيارات مكوكية لكل من فرنسا ومصر وتركيا واليونان وروسيا والسعودية والإمارات، واستقبال مسؤولين كبار من تونس وإيطاليا واليونان وفرنسا وألمانيا، ليس الهدف منها تطوير العلاقات الدبلوماسية وتعظيم المصالح المباشرة فقط، لكن محاولة توفيق الأوضاع وليس تغييرها من خلال الانفتاح على قوى لها مصالح متعارضة.
يتمنى الليبيون أن تهدأ التوترات بين مصر وتركيا، وتُحل المشكلات بين أنقرة وكل من اليونان وفرنسا، وتتصالح نهائيا باريس مع روما في ليبيا، ولا تتصارع الولايات المتحدة مع روسيا الطامعة في وضع قدمها في ليبيا، كي لا ترهق الدولة في حسابات حرجة وتوازنات هشة، فالكثير من مصالح القوى المنخرطة في الأزمة وبأشكال متباينة متناقضة ويصعب قسمتها على اثنين، فما بالنا لو أكثر.
تبني السلطة الجديدة تقديرها في مسألة التوازنات بين قوى مختلفة على خبرات ونتائج بعض الدول التي نجحت في تحقيق هذه المعادلة وأقامت علاقات بين الشرق والغرب، واستفادت من ذلك في تخفيف حدة الأزمات التي كان يعاني منها كل من رهن مستقبله السياسي ومصير بلده بجبهة واحدة.
يحاول الدبيبة تفكيك عُقد العلاقة مع تركيا بهدوء، وتعد أكثر الدول تأثيرا بشكل مباشر في الأزمة الليبية بما لديها من مرتزقة وقوات عسكرية على الأرض، وما ربطها بالحكومة السابقة من اتفاقيات وتفاهمات لم تنكرها الحكومة الحالية، والتي يعلم رئيسها أن تكاليف شطبها عليه في الوقت الراهن باهظة.
انساق المنفي والدبيبة نحو ضبط زوايا العلاقات مع قوى إقليمية ودولية، لأن كليهما يعلم عمق انعكاساتها على القضايا الداخلية، فغالبية النكبات السياسية والعسكرية جاءت من وراء ذلك، بدءا من قيام حلف شمال الأطلسي بإسقاط نظام العقيد معمر القذافي وحتى تمركز الآلاف من المرتزقة والعصابات المسلحة والمتطرفين، مرورا بحزمة طويلة من الملفات استدعت استنفارا عارما كاد أن يحول ليبيا إلى ساحة حرب دولية.
لم تكن ليبيا استثناء في الأزمات العابرة للحدود، أو اخترعت الحروب بالوكالة، لكن المشكلة أنها جمعت بين الخصال التي يمكن أن يجدها المراقب في أزمات متفرقة، فهي ساحة للصراع على النفوذ الإستراتيجي بحكم الموقع الجغرافي، والصراع على الثروة بسبب الموارد الطبيعية الكبيرة، وفضاء لتصفية الحسابات بين قوى عدة.
وتحولت إلى فناء مناسب لتمركز متشددين في منطقة جغرافية رخوة وحدودها ممتدة ومفتوحة، أو يصعب ضبطها، ومطمع لعصابات مسلحة ومرتزقة وإرهابيين، ومجال لاختبار وتجربة معدات وآلات عسكرية، وغيرها من المكونات السلبية التي تصاعدت ملامحها في ليبيا.
وسط ظواهر مخيفة اختارت السلطة الليبية البدء في ترميم الجدران الخارجية أولا، وهو اعتراف صريح بمحدودية العوامل الداخلية التي لعبت دورا في تغذية الصراع، واختبار لمدى القدرة على تطويق أدوار القوى الإقليمية والدولية، باعتبار أن التوصل إلى نتيجة إيجابية معها يفتح الطريق لضبط المفاتيح الرئيسية للأزمة.
انطلقت هذه الرؤية من زيادة الأدوار التي تقوم بها بعض القوى، وهي رؤية صائبة إذا استطاعت السلطة وضع يديها على جروحها من دون تفرقة أو مناورات، لأنها موضوعة تحت منظار يرصد ماذا فعلت مع تركيا، وكيف تصرفت حيال مصر، وإلى أين ذهبت في التفاهمات مع كل من روسيا وفرنسا وإيطاليا واليونان، وما مصير العلاقة مع السعودية والإمارات ودول المغرب العربي؟
قد تكون الأسئلة المطروحة صعبة وليس من السهولة الإجابة عليها من قبل سلطة أمامها بضعة أشهر لإجراء انتخابات واختيار قيادة دائمة، وهي خطوة تجد تأييدا دوليا كبيرا، ويعوّل عليها ليبيون للخروج من قلب المعاناة التي تلازمهم منذ أكثر من عشر سنوات، وأفقدتهم الثقة في أسماء عديدة من النخب السياسية والعسكرية.
يبدو أن السلطة الليبية تتصرف وكأن أمامها سنوات في الحكم وليس ثمانية أشهر، فالتوازنات التي تحاول بناءها تحتاج وقتا طويلا، وتفويضا دستوريا واضحا، وشعبية داخلية متينة تقف خلفها وتساعدها على تجاوز المطبات ما جعل الشكوك تتزايد في إمكانية إجراء الانتخابات في موعدها قبل نهاية العام الجاري.
يعتبر قطاع من الليبيين أن ترتيب الأوضاع الخارجية حق يراد به باطل، ففي ظاهره يعكس رغبة في وقف التدخلات، مستندة إلى تجدد الدعم الدولي لمنع كل أشكالها وصدور قرار مهم لمجلس الأمن بمراقبة وقف إطلاق النار، وفي باطنه يحمل تحايلا لبقاء الأوضاع على ما هي عليه عبر صيغة تضمن لكل طرف تحقيق مصالحه بلا فعالية كبيرة لوقف العبث الخارجي الذي أدى إلى تفاقم الأزمة.
تصلح التوازنات مع الحكومات المستقرة التي تعلم أنها قادرة على الوفاء بالواجبات والتعهدات، بينما في حالة السلطة المؤقتة يمكن أن تجلب معها مشكلات، لأنها قد تضطر إلى تقديم تنازلات للتدليل على قدرتها في تقديم حلول من دون أن تستطيع ضمان تنفيذها، ويتولد عن ذلك خلل يفتح الباب لمشكلات جديدة.
إذا تمادت السلطة الليبية في نسج شبكة من العلاقات لمجرد التوازن سوف تكون مخطئة، فالسباق على ليبيا وفيها الذي ولده الفراغ الأمني والسياسي لا زال موجودا، ويمكن أن تتزايد معالمه في أي لحظة، وقد تجد القيادة نفسها بين شقي رحى التوفيق بين متناقضات كثيرة والحفاظ على أمن واستقرار بلد يعج بميليشيات بعضها تضخم بصورة أفقدت من يسيطرون عليها التحكم فيها.
من الأجدى في هذه الحالة البحث عن حل للانقسامات وتهيئة البلاد لاستحقاق الانتخابات، فالنتيجة التي سوف تتحصل عليها السلطة التنفيذية من الترتيبات الخارجية يمكن أن تتحطم إذا أخفقت في معالجة نظيرتها الداخلية والتي تحتاج لجهود كبيرة لتعزيز اللُحمة الوطنية بعد أن تأثرت بما جرى من صراعات الفترة الماضية.
تظل توازنات المنفي والدبيبة معرضة لتخرج عن الخط السياسي والعسكري والاقتصادي المرسوم لها، ما لم تمض بالتوازي معها تحركات داخلية تعتمد صيغة مواءمات الضرورة، بلا إنحيازات لقوى معينة أو غُبن لقوى أخرى، ففي النهاية تماسك الجبهة المحلية والحفاظ النسيج الوطني بلا تفرقة مناطقية وتوحيد جميع المؤسسات النظامية، من العوامل التي تقيس نجاح وفشل السلطة التنفيذية.