الرئيسية / مقالات رأي / موسكو وواشنطن والحلبة الأوكرانية

موسكو وواشنطن والحلبة الأوكرانية

بقلم: مصطفى فحص – الحرة

الشرق اليوم- تشكل أوكرانيا جزءا أساسيا من الوعي الجماعي الروسي، المرتبط بعلاقة تأسيسية بينهما يتجاوز عمرها 12 قرنا، بدأت مع هجرة القبائل السلافية إلى السهوب الأوكرانية بداية القرن التاسع والاستيطان في مناطق نوفغورد ولادوغا وكييف، وتأسيس ممكلة (كييفك –روس) سنة 880 ميلادية، والتي ضمت غرب أوكرانيا وكافة بلاروسيا وأغلب أراضي روسيا الحالية، وصولا إلى اعتناق هذه القبائل السلافية للمسيحية الأرثوذكسية على يد الحاكم الروسي فلاديمير الكبير بداية الألفية الثانية، الذي شكلت تحولا سياسيا وروحيا في التاريخ المشترك بين البلدين، ما سهل على أوكرانيا أن تكون في 30 من ديسمبر 1922 دولة مؤسسة للاتحاد السوفياتي.

كان الزعماء السوفيات الأوائل يرون أوكرانيا الرأس، لذلك عملوا على ضمها مبكرا إلى جسد اتحادهم، حتى يضمنوا ولادته سليما. هذا التعريف الذي ينسبه البعض إلى الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين، لم يزل راسخا ليس فقط في عقل صناع القرار الروسي، بل عند منظري الفكر القومي ودُعاة إعادة بناء الإمبراطورية تحت ذرائع دينية وإثنية، حيث لم تزل أوكرانيا في نظرهم إلى الآن جزءا من الأراضي الروسية.  

منذ الثورة البرتقالية 2004، شكلت أوكرانيا عقدة جيوسياسية أرّقت صناع القرار في الكرملين، الذين فشلوا في إعادتها إلى حضيرتهم، وهم يواجهون الآن تمردا جيواستراتيجيا على الثوابت التي حكمت العلاقة بينهما منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لذلك لجأوا إلى استخدام كافة أدوات الضغط والتلويح بالخيارات غير الدبلوماسية، والتي وصلت إلى ذروتها في الأيام الأخيرة بعد تصاعد الاحتمالات عن عمل عسكري روسي مباشر، لن تتردد موسكو في اتخاذه، إذا تجاوزت كييف الخطوط الحمراء وخرجت من المنطقة الرمادية، وقامت بخطوات تربطها أكثر مع المحور الغربي.

عوامل عديدة رفعت منسوب القلق الروسي من خيارات كييف المقبلة، في مقدمتها قناعة موسكو بخسارة السيطرة نهائيا على القرار السياسي الأوكراني، الذي ترافق مع سقوط مدوّ للسياسيين الأوكران من المؤيدين لها وتراجع شعبيتهم إلى نسبة ما دون 15%، لكن يبقى العامل الأكثر حساسية بالنسبة للروس هو التدخل المباشر للإدارة الأميركية الجديدة في الشؤون الأوكرانية وتبنيها الكامل لموقف كييف واستعدادها لتقديم الدعم الكامل في أي مواجهة مع موسكو.

عمليا لم تنتظر موسكو انتشار قوات من الناتو على الحدود مع أوكرانيا، أو الوقوف مكتوفة الأيدي أمام تزويد كييف بمزيد من الأسلحة الفتاكة، لذلك بدأت استعداداتها لأي مواجهة محتملة قد تستدعي عملا عسكريا رادعا، يعيد خلط الأوراق الإستراتيجية والسياسية في أوروبا، خصوصا أن النخب العسكرية الروسية تراهن على سيناريو جورجي يعتمد على تفوق القدرة النارية الروسية، إضافة إلى صعوبة التدخل الأميركي المباشر أو غير المباشر في المعركة، ما يساعد موسكو على حسمها بسرعة وتحقيق أهدافها السياسية في إضعاف حكومة كييف، والاستراتيجية في إبعاد الناتو عن حدودها.

منذ وصول جو بادين إلى البيت الأبيض قرعت موسكو ناقوس الخطر، وتهيأت للتعامل مع إدارة أميركية تنتمي عقائديا لمرحلة الحرب الباردة وتستخدم لغة عدائية ضدها، وأزعجها إصرار واشنطن على دعوة الأوروبيين إلى وضع حدّ لنفوذها والتخطيط لتطويقها داخل مناطق نفوذها التاريخية، الأمر الذي جعل من أوكرانيا ساحة لتصفية حسابات روسية أميركية، دفعت موسكو المستفزة والحذرة من الانزلاق إلى حرب مفتوحة في أوروبا، إلى الاستعداد لحرب استباقية محدودة، تردع من خلالها الناتو الذي يحاول هو أيضا ردعها. 

وفي هذا الصدد يقول الخبير في العلاقات الدولية في المعهد الأوكراني للمستقبل إيليا كوسا “نتوقع زيادة في الدعم الأميركي لأوكرانيا دون المخاطرة بضمها إلى الناتو، الأمر الذي سيفتح أبواب جهنم، وفي المقابل ستزحف روسيا شيئا فشيئا بقواتها، استعدادا لحرب حتمية في المستقبل القريب أو البعيد”.

وعليه، فإن الدول المعنية في المواجهة الأوكرانية دخلت مرحلة الاختبار. موسكو لا يمكن أن تساوم على ما تعتبره ثوابت أمنها القومي، وصورة نظامها السياسي داخليا، أما واشنطن فإن مصداقية الإدارة الجديدة داخليا وخارجيا باتت على المحك. 

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …