بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم- تميّزت ردود الفعل الإيرانية على عملية التخريب الكبيرة التي تعرّضت لها منشأة نطنز النووية الإيرانية، والمنسوبة الى إسرائيل، “بالاعتدال” وفقاً لما قاله محللون مطلعون على المداولات المحيطة بمفاوضات فيينا. حتى الآن ردت إيران عسكرياً بمهاجمة سفينة إسرائيلية وألحقت بها أضراراً محدودة، وهذا الهجوم يمكن وضعه في سياق ما يسمى “بالحرب الخفية” الدائرة بين البلدين في مياه المحيط الهندي والبحر الأحمر، حيث تقوم إسرائيل بمهاجمة السفن الإيرانية التي تشتبه بأنها تقوم بأعمال التجسس أو بتسليح سوريا. الرد الإيراني الآخر، وهو تقني وسياسي، قد تمثل بالإعلان عن أنها سوف تخصّب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة، أي ضعفي نسبة العشرين بالمئة التي كانت تخصب فيها اليورانيوم في أول انتهاك لها لاتفاق 2015، بعد انسحاب إدارة الرئيس السابق ترامب منه في 2018. إيران بدأت بانتهاك بنود الاتفاق في 2019، وخاصة لجهة زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، وتطوير أجهزة طرد مركزي متطورة أكثر مما يسمح به الاتفاق النووي.
الولايات المتحدة وصفت هذا الإعلان بأنه “استفزازي”، أما الدول الأوروبية المشاركة في مفاوضات فيينا وهي فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فقد أصدرت بياناً مشتركاً أعربت فيه عن “أسفها” للقرار الإيراني. تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة ـ إذا استمر لفترة طويلة وبكميات ضخمة – يعني تقريب إيران من مستوى التخصيب بنسبة 90 بالمئة، حيث يمكن استخدام اليورانيوم كوقود للقنابل النووية. ولكن مقابل هذا الإعلان، واصل المسؤولون الإيرانيون القول إن مثل هذه القرارات قابلة للإلغاء، إذا تم التوصل الى صيغة تعيد البلدين الى الالتزام ببنود اتفاق 2015، وهو الهدف الأولي لمفاوضات فيينا، على الرغم من أن واشنطن تريد العودة للاتفاق كخطوة أولى لتطويره وتعديله، بينما تصر إيران على العودة للاتفاق مقابل إلغاء العقوبات الأميركية. أيضاً لن يكون بوسع إيران من الناحية التقنية تخصيب اليورانيوم بهذه النسبة المتقدمة في أي وقت قريب، إذا كانت التقديرات الأولية للأضرار في نطنز صحيحة. المسؤولون الإيرانيون في الأيام التي أعقبت التفجير اعترفوا بحدوث أضرار فادحة بأجهزة الطرد المركزي الضرورية للتخصيب. وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد نسبت الى مسؤولين استخباراتيين قولهم إن إصلاح الأضرار سوف يستغرق 9 أشهر.
اللافت هو أن المسؤولين الإيرانيين، من المرشد الأعلى علي خامنئي، الى كبير المفاوضين في فيينا عباس عراقجي أوضحوا بتصريحاتهم وسلوكهم أنه لا صحة للتكهنات التي تحدثت عن تعليق للمفاوضات أو الانسحاب منها احتجاجاً على الهجوم الذي اتهمت إيران إسرائيل بالقيام به. كما أن المسؤولين الإيرانيين لم يتهموا الولايات المتحدة بالتواطؤ مع إسرائيل في الهجوم – كما حدث بعد الهجوم الذي تعرضت له منشأة نطنز في 2010 – أو أنها كانت تعلم به مسبقاً. وكانت واشنطن عبر تصريحات الناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي، وفي تسريبات خلفية للصحافيين، قد أوضحت أنها لم تكن تعلم بالهجوم ولم تشارك فيه.
ولاحظ بعض المحللين، أن هذه المواقف الإيرانية التي تعبّر بوضوح عن رغبة إيران القوية بإحياء الاتفاق النووي، تأتي في الوقت الذي دخلت فيه إيران عملياً في موسم الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الثامن عشر من حزيران (يونيو)، حيث يفترض في مثل هذا الوقت الحساس والذي تزداد فيه المواقف والمزايدات السياسية حدة، أن لا تتخذ السلطات الإيرانية قرارات خارجية قد تثير جدلاً داخلياً حاداً.
هذه المواقف “الموزونة”، ذكّرت بعض المحللين، بالرد الإيراني العسكري على اغتيال إدارة الرئيس ترامب لقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني في مطلع السنة الماضية خلال زيارة له لبغداد. آنذاك ردت إيران بقصف صاروخي ضد قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار العراقية التي كانت تنتشر فيها قوات أميركية. القصف لم يكن مفاجئاً، واكتشفته أجهزة الرصد الأميركية، ما سمح للعسكريين باللجوء الى الملاجئ. القصف أدى الى أضرار مادية كبيرة بالقاعدة ولكنه لم يؤد الى مقتل أي من الجنود الأميركيين، وإن تبين لاحقاً أن العشرات منهم أصيبوا بارتجاج في الدماغ. إيران كانت تدرك أن الهجوم لن يكون مفاجئاً، واكتفت بهذا الرد للانتقام لمقتل سليماني.
لماذا هذه الردود الإيرانية المحدودة؟ يقول بعض المحللين إن الأزمة الاقتصادية الراهنة في إيران، والناتجة الى حد كبير من العقوبات الاقتصادية الشاملة التي فرضها الرئيس السابق ترامب – والتي تشمل معاقبة أي دول أخرى، بما فيها الحليفة التي تتعامل مع إيران تجارياً ومالياً – قد وضعت إيران والقيادة الإيرانية في مأزق مماثل للمأزق الذي عانت منه إيران في المرحلة التي سبقت التوقيع على اتفاق 2015، بسبب نجاح إدارة الرئيس الأسبق أوباما آنذاك بإقناع المجتمع الدولي بمقاطعة إيران اقتصادياً، بما في ذلك وقف استيراد النفط الإيراني. تلك الأزمة الاقتصادية وحاجة إيران الماسة للعملة الأجنبية (الدولار تحديداً) ورغبتها باستعادة عائداتها المجمدة في الولايات المتحدة، دفعت بالقيادة الإيرانية للتوقيع على اتفاق 2015 وقبول قيود على برنامجها النووي لم تكن تقبلها في السابق.
عندما انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق في 2018 لم يكتف فقط بإعادة فرض العقوبات الاقتصادية ضد البرنامج النووي التي فرضتها واشنطن قبل 2015، بل فرض لاحقاً 1600 عقوبة جديدة، العديد منها فرضت على المؤسسات والكيانات والأفراد ذاتهم ولكن لأسباب مختلفة. وفرضت هذه العقوبات بطريقة تجعل من الصعب جداً على أي خلف لترامب إلغاء هذه العقوبات، وخاصة إلغاءها بسرعة، لأن عملية الإلغاء هي عملية بيروقراطية ومعقدة. وعلى سبيل المثال، فرضت عقوبات عامة ضد مؤسسة إيرانية حيوية مثل المصرف المركزي بسبب البرنامج النووي، ولكن عقوبات مماثلة فرضت على المصرف المركزي، ولكن في المرة الثانية كانت بتهمة مساهمته في تمويل الإرهاب. هذا يعني أن إلغاء العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي، لن تلغي بالضرورة العقوبات على المصرف المركزي بسبب دعم الإرهاب، وهكذا.
وهذا يعني أنه حتى ولو حققت مفاوضات فيينا هدفها الأولي، أي عودة إيران والولايات المتحدة للالتزام ببنود اتفاق 2015، فإن تفكيك “العقوبات القصوى” التي فرضها ترامب، لن يكون سهلاً أو سريعاً. ما هو واضح الآن، هو أن موقع إيران التفاوضي في فيينا قد أصيب بنكسة نوعية كبيرة، بسبب عملية التخريب في نطنز. وبغض النظر عن مواقف المسؤولين الأميركيين العلنية من عملية التخريب الإسرائيلية، فإن واشنطن سوف تستفيد منها لأنها أعطت المفاوضين الأميركيين وقتاً طويلاً نسبياً ـ بضعة أشهر على الأقل – لمواصلة المفاوضات، بعد تحييد الضغوط والإنذارات الإيرانية.