بقلم: عدلي صادق – العرب اللندنية
الشرق اليوم- بعد أن مرت فترة طويلة من التكتم على وقائع الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية في البحار؛ بدأت برقيات الإنباء في تغطية هذه الوقائع، دون المجاهرة رسميا، من قبل الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، بقصص خبرية مكتملة الأركان. وفي هذا السياق، لم تكن الجوانب القانونية المتعلقة بالملاحة التجارية الدولية هي السبب الأهم لتكتم إسرائيل وإيران على الكثير من وقائع ضرب السفن. فكلتاهما، عندما تضرب، تتعمد التسريب بأن الهدف الذي تعرض للهجوم يتبع “الحرس الثوري الإيراني” أو “الموساد الإسرائيلي”، ويحدث ذلك حتى عندما تكون السفينة المصابة مخصصة لنقل السيارات أو غيرها من السلع المدنية، ومسجلة في بلد آخر وترفع رايته، بالرغم من ملكيتها لهذا الطرف أو ذاك!
وفي الحقيقة، يتسم النزال في البحر بسمة المناوشة الهادفة إلى تظهير حال النزاع وكأنه قد أوشك على الانفجار، دون أن يكون الأمر كذلك بالضرورة. فبالنسبة إلى إيران، كانت طهران حريصة على إظهار نفسها بأنها قد ردت و”انتقمت” بعد الهجوم الذي وقع في منشأة “نطنز” النووية. لذا وقع الهجوم على السفينة “هايبرون” التي تملكها إسرائيل وترفع علم جزر الباهاما، وهي على مقربة من ساحل إمارة الفجيرة في دولة الإمارات. وسرعان ما تبين أن السفينة هي ناقلة سيارات وأصيبت بصاروخ إيراني. وقال الإسرائيليون إن الهجوم نُفذ، على الأرجح، بصاروخ من الجانب الإيراني أو بطائرة مسيرة، ولم يؤد إلى وقوع أضرار جسيمة. بل إن شركة “راي” الإسرائيلية للنقل البحري أصدرت بيانا قالت فيه إن سفينتها “لم تتكبد أي أضرار وهي مستمرة بأقصى سرعة في رحلتها الأصلية”!
أما على المستوى العسكري الإسرائيلي، لم يصدر أي تصريح، وقد أدلى “مسؤول أمني” لصحيفة “نيويورك تايمز” بتصريح قال فيه إن إسرائيل لم تكن تنوي الرد بهجوم آخر على سفينة إيرانية، لأن إسرائيل، حسب قوله، تريد تخفيف التوترات في منطقة الخليج. على الرغم من ذلك كان الهجوم على منشأة “نطنز” هو الذي استحث الهجوم الإيراني على السفينة الإسرائيلية، لاسيما وأن سفينة إيرانية أخرى تُدعى “سافيز” تعرضت قبل نحو أسبوع من حادث “نطنز” لهجوم إسرائيلي في البحر الأحمر وتضررت.
في المحصلة، هناك ضربات تعرضت لها سفن مملوكة لإسرائيل في المنطقة، وأخرى مملوكة لإيران، هاجمتها إسرائيل مع مواقع أرضية، تمتد من البحر المتوسط إلى الخليج العربي. وتواظب إسرائيل على إخطار الولايات المتحدة بمسؤوليتها عن الضربات ذات الحساسية العسكرية، مثلما فعلت في الأسبوع الماضي، عندما أخطرت “البنتاغون” بمسؤوليتها عن الهجوم على سفينة شحن تابعة للحرس الثوري الإيراني. وفي غضون هذه المناوشات في البحر، يحرص كل طرف على إنكار الفوارق بين ممتلكاته العسكرية والمادية. وبالطبع تساعد الولايات المتحدة إسرائيل في الادعاء بأن الهدف البحري الإيراني عسكري، وإن كان مسجلا كسفينة مدنية. ومن أمثلة ذلك ما أعلنه “المعهد البحري الأميركي” في العام الماضي، بـ”أن السفينة الإيرانية سافيز، وعلى الرغم من إدراجها كسفينة تجارية، فهي على الأرجح قاعدة أمامية سرية للحرس الثوري الإيراني، وأن هذه السفينة كانت تتمركز في البحر الأحمر في السنوات الأخيرة لدعم القوات الخاصة الإيرانية المرافقة للسفن التجارية”!
غير أن استخلاصات السياسة، في كل ما يجري في البحر، تتجه إلى ترجيح مقاصد محددة عند إسرائيل وأخرى عند إيران. فعلى الجانب الإسرائيلي، تريد الحكومة الشوشرة على أي توجهات تفاوضية لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع إيران، وتريد كذلك التأكيد على جاهزيتها العسكرية على الرغم من الانسداد البات حتى الآن على مستوى السياسة الداخلية وقدرة الأحزاب والقوى على التوافق على تشكيل حكومة مستقرة. أما إيران، فهي معنية بإظهار قدرتها على الرد، لتخليق انطباع لدى أصدقائها بأنها تمتلك الحد الأدنى من الموازنة بين فيض الخطاب التعبوي والعمل الحقيقي في ميادين المواجهة.
ويلجأ النظام الإيراني في بعض الأحيان إلى اختراع قصص عن عمليات ثأرية ناجحة، وصلت إلى حد نسج حكايات بلا مفردات، عن ضرب “مركز” لجهاز “الموساد الإسرائيلي” في شمالي العراق والإجهاز عليه، ذلك علما بأن هناك العديد من الوسائل، منها ما تسمح به العلاقة بين طهران وبغداد، لاقتلاع هكذا مركز، لو كان معلوما وقائما، دون انتظار هجوم إسرائيلي على منشأة تخصيب اليورانيوم “نطنز”. بل إن المفارقة ترتسم عندما يظن المعلنون عن تصفية مركز لجهاز “الموساد” في شمالي العراق أن مثل هذا الإعلان دليل قوة أو فاعلية في العمل، بينما مجرد وجود مثل هذا المركز أصلا، على مقربة من حدود إيران، وفي بلد تمتلك فيه إيران ميليشيات مسلحة، يعد دليل فشل وخيبة.
بعد هجوم “نطنز” قالت إيران إنها تريد الانتقام. وقالت أيضا إنها ستقوم الآن بتخصيب اليورانيوم حتى 60 في المئة. بعد ذلك، نشرت وسائلها الإعلامية نبأ الهجوم على سفينة إسرائيلية قبالة ساحل الفجيرة، لكن إسرائيل نفسها قللت من أهمية الهجوم واختزلت التفاصيل في عبارة “طفيفة”!
ربما يكون الإيرانيون قادرين على تصعيد حقيقي في منطقة الخليج، لكن مصالحهم فيه لا تزال أكبر بكثير من أسباب المقامرة بها وبتضييع السياق المنظور لإدارة الرئيس بايدن، للعودة إلى مفاوضات الملف النووي. فالتوترات مع إسرائيل تفاقمت في البحر، واتخذت شكل العمليات السرية والاعتراضية، وهذه عمليات تمتلك إسرائيل خبرة طويلة فيها مع امتلاكها عناصر مساعدة وتقنيات وهوامش اتفاقات أمنية.
ويصح القول إن التصدي الإيراني بفاعلية للهجمات على ميليشياتها ومراكزها في سوريا أكرم لها وأفضل تعليلا لخطاب عنفوانها. ففي الحرب السرية وحرب البحار، وجدت طهران نفسها في موقع الدفاع ومحاولة حماية علمائها ومنشآتها، وخسرت العالم النووي الكبير محسن فخري زاده في عملية عمق استخبارية، سيكون من الحماقة الرد عليها بضرب سفينة تنقل سيارات أو عجولا. فالرد إن لم يكن بمستوى الإنشاء في تدبيج الخطابات، فالأكرم هو تبديل لغة الخطاب كلها، والتهيؤ للدفاع عن النفس في سوريا وهذا أشرف وأنبل من قهر السوريين، والدفاع أيضا عن النفس في المنشآت النووية، مع شيء من التواضع الخطابي!