بقلم: عماد الدين الجبوري – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- في خضم النزاعات السياسية والصراعات الفكرية في القرن الهجري الأول، يُعدّ مذهب الاعتزال من أهم روافد علم الكلام في الإسلام، وهو “الكلام الدقيق” في تناول المشكلات والمواضيع الإلهية والطبيعية والإنسانية… إلخ. ولذلك عرّف المعتزلة دقيق الكلام بأنه “غامض الكلام ولطيفه”. ومن هنا، نستطيع القول إن هذا التعريف المعتزلي يعني منطلق الفلسفة العربية التي مهدت الطريق للتفاعل مع الفلسفة اليونانية والحكمة الهندية وغيرها في بناء الحضارة الإسلامية العالمية.
المعتزلة الأوائل
تميّز المعتزليون الأوائل بالاهتمام المعرفي والابتعاد عن النزاع السياسي، وبذلك كانوا روّاداً في تشكيل نواة المعرفة العقلية في الفكر العربي الإسلامي وبناء الساف الأول في الفلسفة العربية الإسلامية. وكان المعتزلة يتوزعون في ثلاثة مناطق رئيسة في البلدان العربية هي: الحجاز ومصر والعراق. وعلى الرغم من أن مبدأ الاعتزال هو القاسم المشترك بينهم جميعاً، إلا أن لكل فئة كانت خاصية معينة.
في الحجاز، ذكر المؤرخ الحسن بن موسى النوبختي (القرن الثالث الهجري) في كتابه “فِرق الشيعة” حول الفرقة التي “اعتزلت” ولاية علي بن أبي طالب وامتنعت عن محاربته أو الحرب معه، قائلاً: “وفرقة منهم اعتزلت مع سعد بن مالك وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد بن حارثة. فإن هؤلاء اعتزلوا عن علي وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم بيعته والرضا به، فسُمّوا المعتزلة وصاروا أسلاف المعتزلة إلى أبد الدهر”. (ص 34).
بلا ريب أن هؤلاء الرجال من الصحابة الذين دخلوا في بيعة الإمام علي، فإن موقفهم حيال القتال المتواصل جعلهم يتخذون “الاعتزال” خشية من الفتنة، خصوصاً أن السنوات الأربع من خلافة علي اشتدت فيها رحى القتال والمعارك بين المسلمين أنفسهم، ما دفع عبدالله بن العباس (3 ق.ه -68 ه/619-687 م) أن يعزل نفسه، فتخلّى عن ولاية البصرة وتوجّه إلى مكة، تاركاً الصراع السياسي على الخلافة بين علي ومعاوية، إذ كان ابن عباس يؤثر السلام على الحرب، وكانت له آراء حول هذا الخلاف المستعر. ولهذا السبب أيضاً، تجد أن سيد بني تميم الأحنف بن قيس (توفي 67 ه/686 م) قال لقومه “اعتزلوا الفتنة أصلح لكم”، إذ خيّرَ الإمام علي قبل الخروج إلى معركة الجمل، قائلاً: “إختر مني واحدة من اثنتين، إما أن أقاتل معك بمئتَي محارب، وإما أن أكفّ عنك ستة آلاف سيقاتلون مع طلحة والزبير”. فقال أمير المؤمنين: “أكفف عنا الستة آلاف أفضل”. فذهب إليهم الأحنف ودعاهم إلى القعود واعتزل بهم. وهذه هي المعركة الوحيدة التي لم يشارك فيها الأحنف مع علي.
وفي مصر، جاء عن محمد بن جرير الطبري (224-310 ه/839-923 م) في “تاريخ الأمم والملوك”، أن سعد عامل مصر لعلي كتب إليه يقول: “إن قِبلي رجالاً معتزلين قد سألوني أن أكفّ عنهم وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويُرى رأيُهم”. ويخبرنا الطبري أيضاً بأن “لم يلبث محمد بن أبي بكر الصديق شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادَعهم، فقال: يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إليه: إنّا لا نفعل، دعنا حتى ننظرَ إلى ما تصير إليه أمورنا، ولا تعجل بحربنا”. (ج 4، ص 557).
أما في العراق، فذكر محمد بن أحمد المُطلي (توفي 377 ه/ 987 م) في كتابه “التنبيه والرد على الأهواء والبدع” أن “الطائفة السادسة من مخالفي أهل القبلة هم المعتزلة، وهم أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط، والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرّقون بين علم العقل، والمنصفون في مناضرة الخصوم. وهم عشرون فرقة يجتمعون على أصل واحد لا يفارقونه، وعليه يقولون وبه يتعادون، وإنما اختلفوا في الفروع. وهم سمّوا أنفسهم معتزلة، وذلك عندما بايع الحسن بن علي عليه السلام معاوية وسلّم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وذلك أنهم كانوا أصحاب علي، لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة، فسُمّوا بذلك معتزلة”. (ص 30).
وهذه الطائفة من الاعتزال التي كانت في العراق، وبايعت علي على الخلافة، فإنها لم تختلف معه قط، حتى بعد خسارته في التحكيم مع معاوية، وما جرى من ردود أفعال حول شرعية هذا التنازل في قيادة المسلمين، لكنهم بعد مقتل الإمام علي، ومبايعة الحسن لمعاوية، يبدو أنهم فضّلوا اعتزال الصراع السياسي على الخلافة، والتفرّغ لطلب العلم والمعرفة، كما هو واضح من نص المُطلي.
وهناك نصوص أخرى على هذا المنوال في تناول الرعيل الأول من الاعتزال، ومذكورة عند ابن الأثير وأبي الفدا والنووي وآخرين غيرهم من العلماء والمؤرخين، وهي نصوص يصعب على الباحث تقصّيها من الجانب الفكري إن لم يربطها بأقوال المعتزلة المتأخرين، لا سيما تلك العبارة التي أشار إليها ابن أبي الحديد عندما قال: “اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله، المتقدمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعة أبي بكر بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع، كونه طريقاً للإمامة”. (شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 3).
ومن هذا القول الواضح، يمكننا أن نستنبط بأن أولئك الشيوخ “المتقدمين” هم المعتزلة الأوائل لا غيرهم، لأن الصلة هنا، وفي أقل تقدير، تتعلق بمسألة الإمامة التي لم يختلف عليها الشيوخ “المتأخرون” من الاعتزال. كما أن المتأخرين من المعتزليين، لا سيما مؤرخيهم مثل الشهرستاني، بالغوا في تمتين طبقات الاعتزال، وحشروا فيها طبقة مقدسة تضم الخلفاء الراشدين الأربعة، وعمر بن عبد العزيز، وأبناء وأحفاد علي بن أبي طالب، وبقية الصحابة والتابعين. في كل حال، تعكس هذه المبالغة الوضع الفكري والحياتي الذي وصل إليه المعتزلة في العهد العباسي، مقابل ما واجهوه أيضاً من هجمات ومثالب وكفريات في العهد الأموي.