بقلم: بابكر فيصل – الحرة
الشرق اليوم- منذ أن تم توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو في شهر مارس الماضي، شنت جماعات الإسلام السياسي حملة عنيفة على الأطراف الموقعة باعتبار أن الإعلان قد نص على فصل الدين عن الدولة.
وقد بدا جليا أن فصل الدين عن الدولة بالنسبة لتلك الجماعات التي شنت حملة مضادة لإعلان المبادئ اشتملت على الفتاوى والبيانات وخُطب الجمعة والندوات، يعني أمراً واحداً هو إلغاء العقوبات الحدية الذي تم تضمينها في القانون الجنائي.
ظلت جميع تيارات الإسلام السياسي تطالب بضرورة تطبيق نظام العقوبات الإسلامي الذي يتضمن ما يعرف بالحدود الشرعية باعتباره نظاما إلهيا لا يمكن استبداله بالنظم الوضعية للعقوبات، بل إن تلك التيارات وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، قد اختصرت دعوتها لتطبيق الشريعة الإسلامية فقط في تضمين تلك الحدود داخل منظومة القوانين الجنائية.
قد كان الشعار الذي ابتزت به جماعة الإخوان مختلف الحكومات والأحزاب السياسية يقول: “شريعة سريعة أو نموت، الإسلام قبل القوت”، أي أنهم مستعدون للتضحية بأرواحهم إذا لم يتم تطبيق الشريعة فورا فأمر الدين عندهم أهم من الأكل والشرب، وبالطبع لم تك تلك الشريعة تعني بالنسبة لهم شيئاً سوى إدراج الحدود ضمن القانون الجنائي.
غنيٌ عن القول إن الشعار أعلاه يعكس مغالطة بائنة ونفاق صريح، ذلك لأن القوت هو الكفيل بالحفاظ على حياة الإنسان الذي هو مناط الشريعة التي نزلت في الأصل لخدمته وهدايته وتحقيق وحفظ مصالحه المعتبرة على هذه الأرض، ولم يُخلق الإنسان من أجل خدمة الشريعة، فالإنسان خلق أولاً، ثم جاء الدين ليُرشدهُ ويهديه إن أراد وإلا فعليه أن يتقبل مصيره يوم القيامة.
في تجربة حكم الإخوان التي استمرت منذ يونيو 1989 وحتى أبريل 2019 تم إدراج العقوبات الحدية في القانون الجنائي منذ عام 1991، وقد شملت عقوبات الجلد والرجم والبتر والقتل عن جرائم شرب الخمر والزنا والسرقة والحرابة والردة، وعند بدء العمل بذلك القانون قال قادة الجماعة إن الخطوة تمثل عودة الإسلام الصحيح الذي ظل مغيبا طيلة عهود الحكم الوطني الذي أعقب خروج المستعمر البريطاني عام 1956.
لم يجرؤ الإخوان على تطبيق العقوبات التي تشتمل على البتر والرجم والقتل في جرائم الزنا والسرقة والردة، واكتفوا طيلة فترة حكمهم بتطبيق عقوبة الجلد على شاربي الخمر، وبالطبع لا نستطيع تفسير امتناعهم عن تطبيق تلك العقوبات بعدم وقوع جرائم تستوجب تطبيقها طوال ثلاثين عاما، كذلك لا يمكننا الاستناد على الزعم بأن أحوال البلد لم تكن مهيأة لتطبيق تلك العقوبات، وبالتالي يكون المبرر الوحيد المقبول هو استبشاعهم لتطبيق تلك العقوبات وما يمكن أن تجرَّه عليهم من مشاكل خصوصا مع المجتمع الدولي.
يبدو جليا أن القائمين على أمر تلك القوانين كانوا يدركون أن تطبيق عقوبة الجلد وحدها سيجد استنكارا داخليا إضافة لردود الفعل التي قد تقوم بها بعض الدول وجماعات حقوق الإنسان، ولكن بالطبع ستكون ردة فعل تلك الجهات على عقوبات الرجم والبتر والقتل أكبر بكثير من الجلد، لذا آثروا التوقف عن تطبيقها واكتفوا بوضعها في القانون شكليا.
من ناحية أخرى، قد يقول قائل إن عدم تطبيق الحدود الشرعية لسنوات طويلة لا يبرر الدعوة لعدم العمل بها، وهنا يطرأ سؤال في غاية الأهمية حول جدوى العمل بنظام للعقوبات لا يتم تطبيقه لعشرات السنين؟ فالمعلوم أن القوانين ونظم العقوبات توضع لتُطبَّق وليس العكس، فإذا كانت غير قابلة للتطبيق لفترات زمنية طويلة لأية سبب من الأسباب فذلك يعتبر دليل قصور فيها وليس مؤشرا لجدواها وضرورتها.
إذا اتفقنا أن دافع الامتناع عن تطبيق تلك العقوبات هو استبشاعها والخوف من ردة الفعل على تطبيقها، فإن ذلك ينسف الادعاء الأساسي الذي تنبني عليه دعوة جماعات الإسلام السياسي لتطبيق الحدود الشرعية، وهو قدسية تلك العقوبات باعتبارها أوامر إلهية واجبة التنفيذ ولا يمكن تعطيلها لأي سبب، وبهذا تتحول الحدود لمجرد قضية سياسية (دنيوية) قابلة للأخذ والرد شأنها شأن القوانين الأخرى.
مع ذلك، لم تتورع الجماعة عن التفريط في وحدة البلاد عندما اشترط المفاوضون الجنوبيون وضع مطلب تقرير المصير لجنوب السودان في حال أصرار الحكومة على تطبيق الشريعة والحدود، وهو الأمر الذي أدى في خاتمة المطاف لانفصال ذلك الجزء من البلد وتكوين دولته المستقلة في عام 2011. وقد تكرر ذات الموقف مرة أخرى خلال مفاوضات الحكومة الانتقالية مع الحركة الشعبية بقيادة الحلو التي طالبت بتقرير المصير لجبال النوبة والنيل الأزرق إذا لم يتم إقرار فصل الدين عن الدولة.
عقب توقيع إعلان المبادئ بين الحكومة والحركة الشعبية، أعلنت حركة “تضامن من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية” التي يتزعمها الأستاذ المحبوب عبد السلام، وهو عضو قيادي سابق بجماعة الإخوان المسلمين وكان من أكثر المقربين لزعيمها الراحل حسن الترابي، دعمها الكامل للإعلان باعتباره خطوة مهمة في سبيل الحفاظ على وحدة البلاد ومنع وقوع انفصال جديد.
في إطار حديثه حول مفهوم تجديد الفكر الإسلامي يقول الأستاذ المحبوب (هل الأحكام الواردة في القرآن الكريم هي أحكام نهائية؟ أم أنها أحكام محكومة بالسياق؟ ولماذا تلجأ التجارب الإسلامية المعاصرة إلى تكثيف التحوطات حتى لا تُطبّق حَداً؟ فواقع الأمر أنه لم يتم تطبيق أي حد في السودان طيلة حكم الإنقاذ “يعني حكم الإخوان” وكذلك في دولة إيران. فعلى سبيل المثال، السارق في إيران يُذهب به إلى مدرسة تربية باعتباره يعاني من خلل تربوي، وهذه الفكرة حديثة جداً ولا علاقة لها بفكرة السرقة الحدّية. لذا فالآيات المتعلقة بالأحكام كلها ظرفية جاءت في سياق معيَّن وينبغي أن نقرن كل آيات القرآن بالسياق الذي نزلت فيه، هذا هو التجديد الذي أفهمه للفكر الإسلامي المعاصر، وهذه التساؤلات هي التي انتهت بي إلى أن الدولة الحديثة مضادة للمفاهيم التي أسستها مؤسسة الفقه منذ القرن الرابع الهجري، وإذا أردنا بناء دولة حديثة علينا أن نتحرر من مؤسسة الفقه التقليدية).
يحاول دعاة الإخوان تصوير قضية فصل الدين عن الدولة (أي عدم تضمين الحدود في القانون) وكأنها تعني نهاية الإسلام في السودان، ويعملون على إثارة وتهييج عواطف البسطاء من الناس حول الخطر المزعوم الذي يتهدد الدين، وهذا بالطبع عمل سياسي لا علاقة له بالإسلام، بل تهدف الجماعة من وراءه للعودة إلى كراسي السلطة والحكم.
قال مفتي جمهورية مصر العربية السابق، الدكتور علي جمعة، في حديث على فضائية “سي بي سي” إنه: (لمدة نحو ألف سنة لم تقم الحدود في بلد مثل مصر)، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل أدى عدم تطبيق الحدود لعشرة قرون إلى زوال الإسلام عن أرض الكنانة، بلد الأزهر الشريف؟
لا خوف على الإسلام في السودان على الإطلاق، فهو موجود في قلوب الناس وأفئدتهم وستظل المساجد والخلاوي عامرة بقراءة القرآن وذكر الله، وسيستمر أهل البلد في تجسيد قيم الدين في معاملاتهم بإعانة الضعيف وسند المحتاج وغوث الملهوف ودفع الصدقات والعيش بتسامح وسلمية مع أهل الأديان الأخرى وغير ذلك من القيم الجميلة التي ظلت تعبر عن إسلام أهل السودان منذ مئات السنين.