الرئيسية / مقالات رأي / التاسع من نيسان: من أمل إلى منزلق

التاسع من نيسان: من أمل إلى منزلق

بقلم: حميد الكفائي – سكاي نيوز

الشرق اليوم– مرت قبل أيام الذكرى الثامنة عشرة لسقوط النظام السابق في العراق وقيام النظام الحالي الذي يسمي نفسه ديمقراطيا.

كان العراقيون، باستثناء الطبقة الحاكمة سابقا، يحدوهم الأمل بأن يكون التغيير فرصة لنهوض الدولة وتأسيس نظام ديمقراطي عصري. فالنظام السابق خنق العراق بحروبه وقيوده الكثيرة على الحياة الخاصة والعامة وطبيعته الشمولية وأجهزته القمعية الكثيرة، ودكتاتوريته القاسية وخوفه المستمر من الرأي الآخر والانفتاح على العالم.

عراقيون كثيرون، معارضين للنظام السابق أو موالين له، يفسرون مجيء الأميركيين إلى العراق بأنه لخدمة مصالحهم وليس (لسواد عيون العراقيين!)، وكل منهم يطلق العنان لخياله حول ماهية تلك المصالح، فمنهم من يقول إنها تتعلق بالنفط، وآخر يقول بموقع العراق الاستراتيجي، وثالث يفسر مجيئهم بأنه “لإضعاف العراق الذي يهدد أمن إسرائيل”، وعاشر بأنه “لتدمير الإسلام”! وخامس عشر “لوقف تمدد الصين في الشرق الاوسط”، وما إلى ذلك من تفسيرات مزاجية مصدرها التفكير القاصر والفهم المحدود للسياسة الدولية.

وإذا سلمنا بأن الأميركيين لم يأتوا لإنقاذ العراقيين وتطوير حياتهم وتقوية دولتهم وإقامة نظام حكم عصري يجعلهم الدولة الأقوى والأغنى والأجمل في العالم، وهذه بديهية لا تحتاج إلى براهين، فكل دولة تسعى لخدمة مصالحها أولا وأخيرا، لكن الدول العصرية تدرك أيضا أنها لا تستطيع أن تخدم مصالحها فحسب، بل يجب أن تكون هناك مصالح مشتركة مع الدول الأخرى، فمسألة وجود رابح كلي وخاسر كلي لم تعد متبعة في عالم اليوم. كما أن قيام دولة بمساعدة دولة أخرى دون مقابل هو وهم لا يصدق به سوى البسطاء.

فإن كان للأميركيين مصالح في المنطقة، فهل علينا أن نتجاهل مصالحنا لمجرد أننا نفسد عليهم مصالحهم؟ وهل علينا ألا نتفاعل مع أقوى وأغنى دولة في العالم لإعمار العراق وإقامة نظام يخدم الإنسان العراقي ويعوِّضه عن سني الحرمان، لمجرد التغني بمناهضة الأميركيين؟ ألم يكن الأجدر بالعراقيين الحريصين على مستقبل بلدهم أن يستثمروا الوجود الأميركي في العراق لمصلحة بلدهم، بدلا من تبديد جهودهم وقواهم في معارضته والتحالف مع دولة محاصرة، ليست لها مصلحة في وجود دولة مستقلة ومستقرة إلى جوارها، وجعل العراق ساحة لصراع دولي، الخاسر الأول فيه هو الشعب والدولة العراقيان؟

إن سلمنا بأن القوى المستفيدة من النظام السابق كانت غاضبة من الإطاحة بالنظام، وقد دفعها غضبها وسخطها لأن تقف ضد الوجود الأميركي في العراق، الذي كان مؤقتا في كل الأحوال، وكل مطلع على السياسة الدولية والسياسة الأميركية تحديدا، يعرف ذلك، وقد أشار كاتب السطور إلى ذلك في مقال نُشر في 22 حزيران 2003 في جريدة الحياة اللندنية، تحت عنوان “عراق بلا سيادة أمر مؤقت لا يمكن استمراره”، وحذر الأميركيين من البقاء طويلا في العراق، فلماذا لم تستثِمر القوى الأخرى الفرصة وتتحالف مع دولة عظمى غنية ومتقدمة تكنولوجيا، تتمنى الكثير من الدول أن تقيم معها علاقات مثمرة؟

لماذا أصرت هذه القوى على التحالف مع إيران ضد مصلحة العراق؟ لماذا انخرطت في نشاطات ثأرية ضد العراقيين، من علماء وأكاديميين ومفكرين وفنانين وناشطين وصحفيين، وقتلت المئات منهم واضطرت الآلاف إلى الهجرة؟

الحقيقة أن مشكلة هذه القوى هي أنها متخلفة سياسيا، وأن انتماءها ليس وطنيا أو قوميا، وإنما لجماعة طائفية أيديولوجية عابرة للحدود، لا تعرف الكثير عن الحياة العصرية أو العلاقات الدولية أو الاقتصاد أو التطورات الاجتماعية، فقادتها ومنظِّروها لم يدرسوا السياسة أو الدبلوماسية أو الاقتصاد أو القانون أو العلاقات الدولية، بل درسوا قصصا ونصوصا تأريخية، معظمها مختلق وغير دقيق.

لا شك أن الأميركيين ارتكبوا أخطاءَ كثيرة في العراق، وقد فصّلها كاتب السطور في كتاب بعنوان (فشل الديمقراطية في العراق) صدر باللغة الإنجليزية عام 2019، ولكن، أَما كان الأجدر بالوطنيين المنتمين إلى العراق، أن يشكلوا جبهة وطنية عريضة، ويشخصوا الأخطاء ويعملوا على تصحيحها، خدمة لمصالح بلدهم، ويعملوا مع الأميركيين وباقي الدول المتقدمة لإصلاح الأوضاع والنهوض بالبلد، بدلا من التشدق بشعارات طوباوية لا تغني ولا تسمن من جوع؟

وباستثناء القوى السياسية الكردية، التي كان لديها وضوح في الأهداف النهائية للعملية السياسية الكردية، التي قد لا يتفق معها كثيرون لأنها تقود إلى تقسيم العراق وإضعافه، فإن القوى السياسية الأخرى لم تكن جاهزة للعمل السياسي، ولم تكن لديها أهداف سياسية ومشاريع وطنية، ولا رؤية استراتيجية لمستقبل الدولة أو مشروع للحكم القائم على تعزيز الدولة وخدمة المجتمع.

الجماعات العلمانية الرئيسية كانت لديها مشاريع شخصية وعائلية طبقية، أما الجماعات الدينية فهي، بالإضافة إلى أن معظمها مشاريع عائلية، فإن فهمها للعمل السياسي مبني على أسس خاطئة ابتداء، ويقودها رجال دين لم يألفوا العمل السياسي أو الإداري أو الاجتماعي، ولا غرابة في الأمر، فرجل الدين متخصص في مجال آخر، بعيد عن السياسة والإدارة، وإنما يتعلق بنشر القيم الروحية بين الناس.

وماعدا دولة إيران الثيوقراطية، المحاصرة دوليا وغير المنسجمة مع دول العالم أجمع، لا يوجد رجال دين يقودون أحزابا سياسية أو يتولون مناصب حكومية في أي دولة سوى العراق، وقد آن الأوان أن يتخلى العراقيون عن الأحزاب المتشدقة بالدين لأنها بطبيعتها عاجزة عن إدارة البلد، وستقوده، بل قادته إلى الهاوية.

كان لمعظم الجماعات السياسية مشاريع شخصية أو عائلية، مناهضة لمصلحة الدولة، وقد اتضح هذا في أول تشكيلة عراقية، وهي مجلس الحكم وحكومته ذات الصلاحيات المحدودة. فقد عين الأعضاء أقاربهم وزراء ووكلاء وسفراء وخبراء ومستشارين ومديرين عامين وأعضاء مناوبين في المجلس، دون أي اكتراث للمسؤولية الوطنية والظروف الاستثنائية التي يعيشها البلد. وقد أصبحت سُنّة سار عليها المسؤولون لاحقا، إذ جاءوا بأبنائهم وأخوتهم وأصهارهم وزوجاتهم وأتباعهم غير الأكفاء وعديمي الخبرة وعيّنوهم في مناصب مهمة.

أحدهم عيَّن أباه، الثمانيني، في منصب رفيع، تبعه آخر بتعيين عمه، الثمانيني أيضا، في منصب رفيع، وهذه سابقة غير مألوفة إلا في عهد النظام السابق عندما عين صدام خاله محافظا لبغداد! بينما أصر آخر على تعيين ابنه وزيرا! وجاء ثالث بزوجته لتكون نائبا معه في البرلمان! وعيَّن رابع خاله وزيرا، واختار خامس صهره وابن عمه وزيرين! واختار سادس عديله وزيرا، وعين سابع عديله نائبا له في رئاسة مؤسسة تابعة للدولة، أما الثامن فقد جاء بأصهاره وأبناء أخوته وأولاد عمه وأقاربه وجعلهم نوابا في البرلمان وأعضاءَ في مجالس المحافظات ومستشارين ومديرين، بينما أصبح ابنه ثريا ومتنفذا خلال سنوات معدودات! وهذا الثامن (الزاهد) هو من أكثر المتشدقين بالدين وسيرة أهل البيت!

أحدهم جاء بأبنائه وعينهم مديري أقسام في المؤسسة التي يقودها، بل واستحصل لبعضهم شهادات مزورة من أجل تمرير تعيينهم رسميا! مثل هذه النماذج لا يمكن أن تدير بلدا، أو قرية، أو مستشفى للمجانين، بل هي عالة على البلد والمنطقة والعالم، وحجر عثرة في طريق التطور وتشكل كارثة على المجتمع.

وجود هذه الجماعات أثار الناس ودفعهم إلى الثورة على النظام (الديمقراطي)، بينما الثورات لا تحصل عادة في الأنظمة الديمقراطية، ولا في الأنظمة المستقرة المتصالحة مع شعوبها، فالتغيير يحصل سلميا في العادة، عبر صناديق الاقتراع. وعلى ذكر صناديق الاقتراع، فإن نتائج هذه الصناديق في العراق لا يؤخذ بها، والنتائج المعلنة تتوصل إليها الجماعات المهيمنة على السلطة عبر التفاوض على تقاسم مقاعد البرلمان والمناصب التنفيذية. التزوير هو السمة الأساسية للانتخابات العراقية منذ عام 2005، إلى جانب الترهيب والترغيب وتقديم الرشى لكسب الأصوات.

معظم الذين جيء بهم إلى المناصب غير مؤهلين لأداء الوظائف التي كلفوا بها، بل جعلوا منها مهزلة أمام العالم. وزير خارجية يلقي محاضرات في الفلسفة والتأريخ والدين عند لقائه بالوفود الأجنبية، ولو كانت معلوماته صحيحة، لهان الامر، لكنها هزيلة وخاطئة! وزير صحة يلقى مواعظ دينية، وزير نقل يدير وزارته على (طريقة الإمام العباس)! وهذا ما قاله في تصريح متلفز! وزير الموارد المائية لا يعرف أسماء الأنهار ولا قِبَل له بقطاع المياه، بل لم يكن يعلم أي وزارة خصصت له يوم التصويت عليه في البرلمان!!! وزير التربية يقول إنه جاء “ليتعبد” في المنصب، وزير لشؤون البيئة يدعو إلى “محميات لصيد الأسماك”! ولا أدري كيف تكون “محميات” إن كانت مخصصة للصيد؟ وزير الرياضة يطالب بأن يكون له دور في الشؤون المالية باعتباره كان يعمل في الإدارة المالية لإحدى المليشيات!

أما وزارة الثقافة فعادة ما يتولاها ضباط شرطة أو أئمة جوامع أو شيوخ عشائر! أحدهم هرب وهو في المنصب، ولا أحد يعلم محل إقامته حتى اليوم! وتبعه في الهرب خاله الذي جاء به إلى المنصب! والأمر نفسه ينطبق على وزارة السياحة والآثار التي ألغيت في النهاية، بينما كان يجب أن تكون من أهم وزارات الدولة، ففي العراق توجد أقدم الحضارات والآثار والمدن، وأمكنة مقدسة التي يمكن أن يؤمها السياح من كل الأديان والثقافات من مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى تنوع بيئي نادر، من أهوار وسهول وجبال وأنهار وبحيرات وصحراء.

القوى المتشدقة بالدين لديها الكثير من الأوهام والتصورات التي تتناقض مع الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، بل تتناقض مع القانون الدولي وحقوق الإنسان والذوق العام ومصلحة العراق. ولديها مخاوف كثيرة معظمها لا أساس له من الصحة. معظم هذه القوى يمارس الخداع، إذ كان يخفي أفكاره ونواياه الحقيقية ويتظاهر بقبوله بالديمقراطية، وإقامة علاقات صداقة مع الدول الديمقراطية، لكنه يعمل سرا لتمرير أجندات دكتاتورية متخلفة، وبعيدة كل البعد عن منطق العصر والديمقراطية وسيادة الدولة وطموحات الشعب، إضافة إلى أنها جزء من أجندة معادية للعراق.

وفي الوقت نفسه فإنها تنتهك حقوق الإنسان والقانون الدولي في كل فرصة تتوفر لها، وترتكب جرائم قتل وخطف وابتزاز ونهب، وتنتهك الحريات العامة والخاصة. وقد اتضحت السياسات السرية لتلك الجماعات عندما تمكنت من المجتمع عبر نفوذها المسلح، فأخذت تستعرض سلاحها في شوارع العاصمة، بينما (الحكومة) تتفرج وكأن الأمر لا يعنيها!

مارست هذه الجماعات الخداع مع الشعب العراقي والقوى الدولية، واتبعت سياسات مدمرة للدولة، مثل التمييز وإثارة النعرات الطائفية والعرقية والمناطقية، والإتيان بغير الأكفاء ووضعهم في مناصب لا يجيدون إدارتها، ما قاد إلى تفكك الدولة وإضعاف مؤسساتها وتراجع الاقتصاد وتدني المستوى المعاشي لمعظم أفراد المجتمع، الأمر الذي شجع مسؤولين كثيرين على انتهاك القوانين، وتلقي الرشاوى مقابل تعيين المحتاجين في وظائف هي أساسا حق لهم.

كما سيطرت هذه الجماعات عبر طرق غير قانونية على المنافذ الحدودية وأخذت تجبي أموال الدولة وتستخدمها لأغراضها الخاصة، حتى أصبح قادة هذه الجماعات من كبار الملاك والأثرياء والمتنفذين، وكل منهم لديه مليشيا تحمي مكتسباته وتحارب خصومه. وبالإضافة إلى نهب المال العام، فقد مارست القتل والخطف ضد المخالفين والمحتجين وكل من يجرؤ على كشف فسادها. ومع ذلك، فإن كل هذه الأعمال الإجرامية، لم ترهب العراقيين الذين واصلوا سعيهم لنيل حقوقهم كاملة وتحقيق العدالة للجميع.

هذه هي حال الدولة العراقية بعد 9 نيسان 2003، وتتفاقم كل يوم. فإن كان في العراق دكتاتورية وقمع وتسلط وتغييب وحرمان وقتل قبل 2003، في ظل وجود دولة قوية ذات سيادة، فإن هناك جهة واحدة مسؤولة عن الأخطاء والنجاحات، وهي الحكومة. أما الآن فهناك عشرات الجماعات التي تنهب وتقتل وتخطف وتنفذ أجندات خارجية معادية، وفي الوقت نفسه تنكر أي مسؤولية لها عما يجري، بل تتهم السفارات الأجنبية بتدبير هذه الجرائم! ثم تهاجم السفارات بصواريخ الكاتيوشا وتنفي أي صلة لها بتلك الهجمات!

مثل هذا الوضع الشاذ لا يمكن أن يستمر. لن يسمح به المجتمع العراقي والقوى الوطنية، غير المنظمة حاليا، لكنها كبيرة وقوية، وعليها أن تنظم عملها لأن الخطر يتهدد الجميع. وإن عجز المجتمع العراقي عن تصحيح الوضع، فإن المجتمع الدولي لن يسمح باستمراره، خصوصا وأن هذا الوضع امتداد للنشاطات التخريبية الإيرانية التي يحاول العالم أن يحد منها.

لن تتمكن إيران من حماية المجرمين والمارقين إلى الأبد، بل سوف تتخلى عنهم في أول صفقة تتضمن منافع سياسية واقتصادية لها. دولة ما بعد 2003 في العراق كارثة على العراقيين والمنطقة، والولايات المتحدة مطالبة بأن تضع حدا لهذه المهزلة التي انتجتها سياساتها الخرقاء غير المدروسة في العراق والمنطقة.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …