بقلم: إياد العنبر – الحرة
الشرق اليوم- بينما كنت أستذكر مرور 18 عشر عاماً على تغيير النظام السياسي في العراق، استحضرت مقولة امرأة من جنوب العراق ومن عائلةٍ نالت نصيبها من الإعدام والتهجير والحرمان في زمن الدكتاتورية، إذ اختزلت تلك المرأة سردية سنوات التغيير عندما سُئلت: ما رأيكِ بنظام صدام؟ قالت: صدام قتل أولادنا، دمرنا، جوعنا، هجرنا! وعندما سُئلت: ما رأيكِ بمن يحكم اليوم؟ أجابت: صخَّم الله وجههم، لأنهم بيّضوا وجه صدام !
على الرغم من أن موقفي من إسقاط النظام الدكتاتوري لم يتبدل، إذ لو عاد بنا الزمان إلى 9-أبريل-2003، مع علمي المسبق بأن يكون حالنا على ما هو عليه اليوم، لما ترددت لحظة واحدة بالقول: ليحدث ما يحدث ولا نبقى على دكتاتورية صدام.
لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أجد كلمات تعبّر عن الخيبة والخذلان التي سببتها تراكمات أخطاء الطبقة السياسية بفسادها وفشلها، والتي جعلتنا نشعر بضياع دولةٍ بأكملها وبات حلم كل عراقي أن يعيش في ظل دولةٍ بمعناها الحقيقي لا دولة تحكمها مافيات ومليشيات.
ولا يمكن تخيل موقف عقلاني يحن إلى أيام نظام شمولي يصادر الحريات ويهدر كرامة الإنسان ويريد تحويلهم إلى أفراد وظيفتهم الرئيسة التغني بحب القائد والزعيم، ومن يرفض السير في جوق المطبلين يكون مصيره الإعدام أو التعذيب في السجون أو النفي خارج البلاد.
لكن المفارقة المأساوية عندما تترسخ سلوكيات ونمط تفكير الشمولية والدكتاتورية في ثقافة وسلوك المجتمع. وإذا كانت الدكتاتوريات تعمل على إلغاء الدولة ومؤسساتها واستبدالها بإرادة الزعيم والقائد الأوحد، فإن الطبقة السياسية التي حكمت بعد 2003 عملت على إلغاء الدولة واستبدلها بسلطة زعامات سياسية تهمين على القرار السياسي.
لم تنتج لنا الطبقة السياسية التي تولت زمام الحكم بعد 2003 غير دولة فاشلة، والمصيبة الأكبر أن حتى هذه الدولة الفاشلة عجزوا عن إبقائها في مستوى محدد من الفشل والهشاشة. إذ عملوا العكس من ذلك بفتح المجال أمام قوى وعناوين ما قبل الدولة لمصادرة وظيفة الدولة وتحويلها إلى “دولة موازية”. ولذلك باتت المهمة الرئيسة للمنظومة السياسية هي تحطيم بقايا الدولة من جهة، والبكاء على أطلالها من جهة أخرى.
لا ديمقراطية من دون دولة، هذه المعادلة غائبة تماما عن تفكير الطبقة السياسية، لأنها بالأصل لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالدولة! ولا ديمقراطية تكون فيها السيادة لزعماء الطبقة السياسية ويصادر فيها قرار الشعب. ويلخص تلك الحالة أستاذنا الدكتور عامر حسن فياض بالقول: “ضاعت فرصة الانتقال وأصبحنا في حالة انتقال من كيان دولة متسلطة على جميع التنوعات ولاغية لها إلى سلطة تنوعات متسلطة على الدولة ولاغية لها! بمعنى أدق، انتقلنا من حكم الشمولية الواحدية إلى حكم الشموليات التعددية مخلصين لشعار بناء ديمقراطية من دون ديمقراطيين ومستخدمين دستوراً محكوماً من قبل واضعيه من دون أن يحكم واضعيه!”.
سقط نظام صدام حسين على يد القوات الأميركية ليس بفضل القوة العسكرية فحسب، وإنما سقط لأن أغلب العراقيين كانوا يعيشون ذلاً يومياً على يد دولته الدكتاتورية، ولذلك هم لم يستشعروا خطر سقوط الدولة ولا الوطن؛ لأنهم بالأساس لا يعرفون شيئاً عن الدولة ولا عن الوطن، فكل ما يتعلموه في المدراس وتصدح به حناجر الانتهازيين بأن صدام هو الدولة والدولة هي صدام.
العاملون اليوم على تقزيم الدولة لا يدركون بأن الحكم والسلطة والنفوذ من دون ثقة بين الحاكم والمحكوم، لا تنتج إلا الخراب، وإن مصير من هم في سدة الحكم سوف لا يختلف تماماً عن مصير الطغاة والدكتاتوريين. فالقوات العسكرية الأميركية لم تتمكن من إسقاط نظام صدام حسين إلا عندما تخلى عنه العراقيون. فالشعوب لا تقبل أن تعيش ذلاً يومياً على يد الحاكمين الدكتاتوريين أو أن يكون الإذلال بسبب الفساد والفوضى. فمفاهيم كالوطن والدفاع عن الوطن تتحول إلى شعارات خاوية إذا كان من يرفعها يريد أن يستعبد أبناء الوطن ويتاجر بدمائهم في سبيل البقاء بالحكم.
بعد ثمانية عشر عاماً، سقطت جميع التبريرات التي كانت تتبجح بها الطبقة السياسية على أنها عرقلت عملية بناء الدولة، وبعد خراب البصرة تبين للجميع أن العراق بقي عنواناً بدون دولة! لأن مشروع إعادة بناء الدولة لم يكن حاضراً على طاولة مفاوضات تقاسم مغانم السلطة. وحتى الانتصارات التي تحققت على الجماعات الإرهابية لم تستثمر لإعادة هيبة الدولة، بل تمت مصادرتها لصالح قوى اللادولة وأصبحت تمنحها شرعية مصادرة الدولة.
استبدلنا “جمهورية الخوف” التي أسس لها حكم البعث، بجمهورية الفوضى والفساد التي أسست لها جميع الأحزاب السياسية التي كان مشروعها بعد 2003 تقاسم السلطة أولاً وأخيراً، وتجاهلت تماماً أي مشروع لبناء الدولة، لا بل أنها لم تكن تحمل مشروعاً للدولة من الأساس، لأنها لم تكن تحلم بأن تتاح لها الفرصة بحكم العراق، ولولا التدخل العسكري الأميركي لبقي الموضوع مجرد حلم وأمنيات.
المحنة الأصعب تكون بفقدان الأمل عندما تعيش في ظل دولة دكتاتورية، ويبدو أننا نعود إلى دائرة الخوف مِن ضياع الأمل باستعادة الدولة التي ضيعها الفاشلون والفاسدون وزعماء المهاترات. فأمنياتنا لم تكن مستحيلة لأن غالبية العراقيين اقتصروها على أن يعيشوا حياةً هادئة بلا مزيد من الرعب واليتامى والثكالى والأرامل حالهم حال بقية سكان المعمورة، وأن يغادروا مشهد جنائز الشهداء والقتلى في الحروب العبثية. لكن من جعلوا أنفسهم فوق الدولة ضيعوا تلك الأحلام والأمنيات البسيطة.