بقلم: أحمد مصطفى – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – كتب وقيل الكثير عن الترامبية السياسية، وكيف أن تأثير ترامب ممتد لما بعد تركه البيت الأبيض. فقد كانت فترة رئاسته للولايات المتحدة لأربع سنوات، محفزاً لصعود اليمين المتشدد في دول أخرى حول العالم، واكتساب التيارات الشعبوية دفعة قوية من وجوده على رأس القوة العظمى الوحيدة. صحيح أن اليمين كان أخذ في الصعود قبل ترامب، خاصة في أوروبا الغربية وأستراليا، لكن تأثير ترامب كان هائلاً.
كذلك الأمر مع ما يمكن تسميته «الترامبية» المالية، وصعود موجة «شعبوية» كاسحة في أسواق المال حول العالم، يعبّر عنها دخول الملايين من مستثمري التجزئة في أسواق الأسهم والسندات، لينافسوا المستثمرين المؤسساتيين التقليديين. ويسعى ملياردير أمريكي هو إيلون ماسك، ليكون ترامب الأسواق. وكما كان ترامب في السياسة يستخدم مواقع التواصل لترويج آرائه بحدة وفجاجة، يفعل إيلون ماسك عبر تويتر وفيسبوك. مرة أخرى، ليست الشعبوية المالية مرتبطة بترامب، فقد بدأت بوادرها مع جيل الألفية، وما بعده، سواء من التداول في الأسهم والأوراق المالية إلى استهداف جمع ثروات هائلة دون عمل حقيقي، وكذلك العمل على نقض المؤسسة بالتهرب من الضرائب والمسؤولية الاجتماعية: أي ببساطة «ضد المؤسسة». لكن فترة رئاسة ترامب أعطت الشعبوية المالية قوة دفع وزخم لن يخبو قريباً.
فيما يخص مهنتنا، الصحافة والإعلام، كان تأثير ترامب طاغياً في فترة وجوده في الحياة العامة، والواضح أن هذا التأثير مستمر وقد يكون مستداماً. مع أن كثيراً مما يمكن ربطه بترامب كان موجوداً في الإعلام قبل صعوده السياسي، إلا أن فترة رئاسته أحدثت تغييراً جذرياً في الصحافة والإعلام قد لا يختفي في المدى المنظور.
كانت مواقع التواصل ومنافذ الإعلام الرقمي عموماً أخذت تنال من مساحة الإعلام التقليدي، لكن ترامب باستخدامه تويتر جعل هذا التوجه مستداماً إلى حد كبير. ومع صعود الشعبوية السياسية والمالية قبل ترامب، كانت الثقة في الصحافة والإعلام تتراجع وتزيد مساحات التلفيق وخلط المعلومة بالرأي والخبر بالدعاية المفبركة. لكن فترة رئاسة ترامب أوصلت الأمر إلى مستويات غير مسبوقة، وبدأت الصحافة والإعلام التقليدي يقع في فخ الكذب المباشر وتزييف الصور والفيديوهات بشكل كبير. وطورت التكنولوجيا أدوات مبتكرة لتجعل الكذب والتزييف متقناً، حتى ينخدع به الملايين، بما يشكل وعيهم والرأي العام عموماً على أساس وهمي متقن التزييف. ووصل الأمر إلى استخدام دول وقوى عالمية للتزييف الإعلامي في حملات قرصنة مؤسسية، أو ترويج هائل على مواقع التواصل بما يؤثر في نتائج انتخابات دول كبرى – للمرة الأولى نسمع عن تدخل دول كروسيا وغيرها في الانتخابات الأمريكية في 2016!!
كانت فترة رئاسة ترامب فترة رواج إعلامي استثنائي، رغم كمية الكذب والتلفيق. يلاحظ ذلك من معدلات المشاهدة للشبكات الأمريكية التي تراجعت بشدة منذ ترك ترامب البيت الأبيض، فإدارة بايدن تسير بطريقة تقليدية ليس فيها ما هو مثير إعلامياً. إلا أن هذا لا يعني تراجع تأثير ترامب الإعلامي، على العكس. فقد بدأت شبكة «فوكس نيوز» مثلاً في توظيف أركان إدارة ترامب وإعطائهم مساحات رئيسية في البث، من متحدثته الإعلامية إلى مستشاره الاقتصادي. مع أن بعض العاملين في إدارات سابقة التحقوا بشبكات إعلامية بعد الخروج من البيت الأبيض، لكن عدد من يلتحقون ب«فوكس نيوز» من إدارة ترامب السابقة يجعل الشبكة امتداداً لترامب في الإعلام.
إنما الأهم في تأثير الترامبية الإعلامية على الصحافة والإعلام حول العالم فهو ذلك التوجه الجديد الذي ينال من أصول المهنة. فقد أصبح الرأي مقدماً على الخبر والمساحة الأكبر الآن ليست للخبر والتقرير، ولا حتى التحليل متعدد الجوانب، بل للرأي والوعظ بجهل متعمد أو ترويج لفبركة غير مدققة، وفي أغلب الأحيان بعنجهية من تأخذهم العزة بالأثم. ربما كنّا في إعلامنا العربي سبقنا في ذلك عبر ما تسمى برامج مهرجانات الخطابة التي يتولى فيها «مشهور» إعلامي قصف المشاهدين بخطاب انفرادي، حتى لو في موضوع لا يفقه فيه شيئاً. لكن ذلك كان محدوداً حتى السنوات الأخيرة، حين طغى بفضل تلك الترامبية الإعلامية.
يرتبط بتقديم الرأي على الخبر، بكل ما يحمله ذلك من ضرر على مهنة الصحافة التي تستهدف أساساً تمحيص المعلومة ونقلها للجمهور، كمية أنصاف الحقائق والفبركة المطلقة التي ظهرت جلية في عام الوباء الأخير، وكان لها أثر سلبي هائل على الصحة العامة وقدرة البشرية على احتواء فيروس كورونا. قد يستغرب البعض ربط ذلك بتأثير ترامب، لكن الواقع أن الترامبية الإعلامية لعبت الدور الرئيسي في ذلك.