الرئيسية / مقالات رأي / من “العظمى” إلى “العالمية”.. رحلة بريطانيّة فريدة

من “العظمى” إلى “العالمية”.. رحلة بريطانيّة فريدة

بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية

تنتهج بريطانيا، القوة العظمى التي تمتلك استخبارات بالغة الأهمية، دبلوماسية ذكية تقربها من الشعوب، ولعل تصرّف السفير البريطاني في بغداد الذي يصنف في خانة “دبلوماسية الأكلات الشعبية”، والذي لاقى تفاعلا كبيرا من متابعيه، خير دليل على أن بريطانيا تمتلك قوة ناعمة ودبلوماسية ذكية قادرة على تحقيق الكثير من أهدافها الاستراتيجية.

الشرق اليوم- مئتا ألف مشاهدة أو أكثر بقليل، هو عدد المرات التي قام فيها متابعون بمشاهدة فيديو السفير البريطاني في العراق ستيفن هيكي على تويتر، وهو يحاول إعداد “الدولمة” الأكلة العراقية الشهيرة. ولم يكتفِ السفير بطبخ الدولمة بل رد مفتخرا على المعلقين الساخرين بأنه يعد البامية والكباب والخبز العراقي أيضا.

وقد يرى البعض أن هذا التصرف تلقائي ولطيف، ولا حاجة لتحميله أبعادا وخلفيات، وأنا أؤيد هذا الرأي كذلك، لكني أرى فيه أيضا نوعا من الدبلوماسية الذكية، ولتكن “إتكيت دبلوماسية الأكلات الشعبية”، التي تندرج في إطار القوة الناعمة البريطانية، والعقل الإنجليزي الاستراتيجي، الذي عمل تاريخيا ولا يزال يعمل ويخطط بدقة متناهية ونفس طويل، ليحقق مصالح بريطانيا ويزيد من مكانتها في العالم.

“لا تغرب الشمس أبدا فوق الإمبراطورية البريطانية”.. المقولة التي وصفت “بريطانيا العظمى”، والتي ما زالت صحيحة من الناحية التقنية، جاءت من سيطرة التاج البريطاني سابقا على أكثر من 170 بلدا، ما بين دول ذات سيادة تتبع للمملكة ومستعمرات ومحميات ودول تحت الانتداب وغيرها. ولا أقول هنا بالطبع أن الاحتلال أمر جيد، خاصة بالنسبة لنا نحن الدول التي وقعت يوما تحت نيره، لكني لا أستطيع إلا أن أحترم قوة هذه الدولة، والعقل الإنجليزي الجبار الذي استطاع أن يحتل الكرة الأرضية، بأقل قدر من الدماء، ودون أن تقع بريطانيا تحت احتلال أي دولة.

ويختلف البريطانيون أنفسهم حول دور بريطانيا في الخارج، بين من يرى فيه قوة للخير ونشرا للقيم، وبين من يرى فيه إمبريالية أثّرت سلبا على نظرة العالم إلى بريطانيا، وعلى التنمية المحلية فيها، فرغم ما حققه “الاستعمار” من مكاسب إلا أنه رتّب تكاليف باهظة ومنهكة على بريطانيا.

ولكن في المقابل، لا يستطيع أحد أن ينفي أن الاقتصاد العالمي الأول كان بريطانيا، وأن العولمة وإطلاق العنان للقوى العابرة للوطنية، والتي خلقت روابط بين الأجزاء النائية من العالم، كان نتيجة اتساع رقعة سيطرة المملكة، وأن

“إنجلترا أم البرلمانات” ونظامها التشريعي كان نموذجا لمعظم الأنظمة البرلمانية والقانونية في العالم. ومن بريطانيا وكنتيجة بعيدة للاستعمار نفسه انطلقت الثورة الصناعية، التي ما زالت موجاتها تَحدُث دوريا حتى يومنا هذا، فتحمل التطور والتقدم للعالم كله.

ويخطئ من يظن أن قوة بريطانيا تاريخيا جاءت من قوة أسطولها وحسب، فلا يمكن لأسطول أو جيش مهما كان عديده، السيطرة على الهند والصين، ومعها أميركا الشمالية وأستراليا، ودول أخرى كثيرة وفي وقت واحد.. فالنموذج البريطاني لم يُبنَ على الحروب الدامية، بل على المعرفة قبل كل شيء آخر، عملا بقول رجل الدولة والفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون “المعرفة قوة”.

ولقد قدمت بريطانيا للبشرية الكثير على المستوى المعرفي، وما زالت تقدم، من نيوتن وفلمنج إلى آلان تورنغ وستيفن هوكينغ في العلوم، من شكسبير وديكنز إلى فرجينيا وولف وج.ك. رولينغ في الأدب، وجون لوك الفيلسوف والسياسي، وآدم سميث أبوالاقتصاد الحديث، ومن جون كونستابل وتشابلن إلى البيتلز وكوين في الموسيقى والفن. ومن غراهام بيل مخترع الهاتف إلى هيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي التي انطلقت عام 1922، وصارت واحدة من أهم وسائل الإعلام العالمية، وما زالت بشبكة قنواتها الغنية تلعب دورا محوريا في الحياة العامة البريطانية، وتؤثر ثقافيا في العالم كله، لتكون أداة فعّالة في قوة بريطانيا الناعمة.

وفي هذا السياق لا يفوتنا الحديث أيضا عن الجمعية الملكية في لندن وهي أقدم مؤسسة علمية وطنية في العالم، تأسست في 28 نوفمبر 1660 ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وهي عبارة عن مجتمع أكاديمي، يعمل على تعزيز العلم وفوائده، وتقديم المشورة العلمية اللازمة لصنع السياسات، وتعزيز التعاون الدولي. وكذلك، لا بد من التطرق إلى المجلس الثقافي البريطاني الذي تأسس عام 1934، والمكون من شبكة معاهد ثقافية ولغوية، منتشرة في أكثر من مئة دولة في العالم، مهمتها “بناء العلاقات والتفاهم والثقة بين الناس في المملكة المتحدة والبلدان الأخرى، من خلال الفنون والثقافة والتعليم واللغة الإنجليزية”.

ويطول الحديث عن القوة الناعمة البريطانية، وعن ركيزتها الأساسية التي تقول بأن “بريطانيا تملك محتوى عظيما تقدمه للبشرية”، وأن كل ما يرتبط بالتاج البريطاني هو فخم وذو جلالة وسمو، من جامعاتها وعلى رأسها أوكسفورد وكامبريدج، وما تنتجه من أبحاث رائدة، إلى شركاتها ومصانعها، إلى سيارات مكلارين ورولز رويس وبنتلي، إلى الأفلام والموسيقى والأزياء، وكل ما يرتبط بها من نشاطات إبداعية، إلى صحفها الكبرى الغارديان والإندبندنت والإيكونوميست… ومراكز أبحاثها وفي مقدمتها تشاثام هاوس، وقاعدته تشاتام هاوس رول التي صارت نظاما عالميا لعقد النقاشات وحلقات العصف الذهني حول الموضوعات المثيرة للجدل. حتى دوري كرة القدم الإنجليزي “البريميرليغ” العريق هو واحد من أدوات القوة الناعمة البريطانية.

وما زالت هذه المؤسسات وغيرها الكثير قائمة وتؤدي أدوارها الحضارية، رغم انحسار دور بريطانيا العالمي في القرن العشرين. وما زالت المملكة المتحدة قوة اقتصادية وعسكرية يحسب لها حساب، حليفة للولايات المتحدة ومن الدول المؤسسة للناتو، لها بعد أوروبي فعال، وعلاقات دولية جيدة ورثتها عن الإمبراطورية كصلاتها الوثيقة مع دول الخليج العربي. بالإضافة إلى زعامتها لدول الكومنولث. وبالتالي صحيح أن المملكة لم تعد “بريطانيا العظمى”، إلا أنه يبقى لـ”بريطانيا العالمية” ذات الدور والمكانة على كل الصعد وفي مختلف أنحاء العالم.

وموازاة للقوة الناعمة كانت الاستخبارات البريطانية أداة بالغة الأهمية في تحقيق الأهداف السياسية للإمبراطورية وللمملكة المتحدة في العالم، ولا يستطيع أحد أن ينفي قدرة هذا الجهاز في بريطانيا، ومهارة وحنكة القادة البريطانيين في توظيفه في ما يخدم أهداف دولتهم ويحقق مصالحها في الخارج. لطالما تصرف معظم القادة الإنجليز كرجال دولة بكل ما للكلمة من معنى، ويقول السياسي البريطاني الأشهر ونستون تشرشل “يتلخص تاريخ العالم كله في حقيقة أنه عندما تكون الدول قوية فهي ليست عادلة دائما، وعندما ترغب في أن تكون عادلة، فإنها غالبا ما تكون غير قوية”.

يخطئ من يظن أن قوة بريطانيا تاريخيا جاءت من قوة أسطولها وحسب، فلا يمكن لأسطول أو جيش مهما كان عديده، السيطرة على الهند والصين، ومعها أميركا الشمالية وأستراليا، ودول أخرى كثيرة وفي وقت واحد

أما آن لنا نحن كعرب أن نتعلم كيف تُتخذ القرارات المصيرية وكيف تدار الدول وتقاد نحو بر القوة والنفوذ والتأثير وتحقيق المصالح، أما آن لأغلب قادتنا أن يقفوا بكل جرأة في وجه ما يتهدد بلادهم من مطامع ومشاريع هيمنة وسلب سيادة، فتكون قراراتهم وتحالفاتهم وعلاقاتهم مبنية فقط على مصلحة دولهم؟ هذا الطريق هو أفضل الطرق وأكثرها أمنا، مرة أخرى كما يقول تشرشل “هناك واجب واحد فقط، مسار واحد آمن، وهو أن تحاول أن تكون على حق وألا تخشى فعل أو قول ما تعتقد أنه صواب”.

وبالعودة إلى موضوع السفير البريطاني، أود أن أختم بالقول: لقد أخطأت بريطانيا عندما سمحت للأمور بأن تتدهور في العراق منذ غزوها له مع الولايات المتحدة عام 2003 إلى ما هي عليه اليوم، ويحتاج السفير البريطاني إلى أن يعد الكثير من “الطبخات” السياسية قبل الأكلات الشعبية، بعضها على نار قوية وأخرى على نار هادئة، لمساعدة العراق، فهو واجب على بريطانيا من جهة، وأداة لتعزيز مكانتها في هذا البلد وغيره من البلدان العربية، والتأكيد على أن رسالة بريطانيا هي رسالة صداقة وتعاون وحضارة والتزام بالقيم والوعود.

شاهد أيضاً

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

العربية- هدى الحسيني الشرق اليوم– يقول أحد السياسيين المخضرمين في بريطانيا، المعروف بدفاعه عن حقوق …