بقلم: د. منار الشوربجي – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – الإجراءات والقواعد، التي ترسيها المؤسسات السياسية لنفسها، ليست محايدة ولا بريئة، فوراؤها دوماً أهداف تسعى لتحقيقها، ومن يصنع القواعد فبإمكانه أن يحصل على النتائج التي يهدف إليها، تلك هي حكاية الجدل السياسي الدائر، اليوم، حول قواعد مجلس الشيوخ الأمريكي، والذي لم يعد طرفاه فقط أعضاء المجلس، وإنما انضم إليهما الرئيس الأمريكي شخصياً، بل وصار جدلاً مجتمعياً، تشارك فيه القوى الاجتماعية والسياسية.
وأصل الحكاية أن الاستقطاب السياسي الحاد، وانقسام مقاعد مجلس الشيوخ بالتساوي بين الحزبين، ينذر بعرقلة عمل إدارة بايدن، فالحزب الديمقراطي هو حزب الأغلبية بالمجلسين وحزب الرئيس، لكن الكثير من الأوراق لا تزال في يد الجمهوريين، خصوصاً بمجلس الشيوخ، إذ بإمكانهم وأد أجندة بايدن التشريعية، والعودة للناخبين بعد عامين، وقد أمسى حزب الأغلبية خالي الوفاض من أي إنجاز يعيده للسلطة، فأزمة الديمقراطيين ليست بمجلس النواب، الذي تصدر تشريعاته بالأغلبية البسيطة، وإنما بمجلس الشيوخ، إذ إنه لم يحصل سوى على 50 مقعداً في المجلس.
وبالتالي فإن أغلبيته أساسها أن نائبة الرئيس، كامالا هاريس، هي رئيسة مجلس الشيوخ، بحكم الدستور، وهي التي ستدلي بالصوت المرجح متى انقسم المجلس بالتساوي، لكن الأزمة مصدرها أن مجلس الشيوخ يصدر تشريعاته، في الكثير من الأحيان، بأغلبية الثلثين، لا الأغلبية البسيطة، وتلك قاعدة معقدة تعرف باسم «الفيليبستر».
و«الفليبستر» كلمة هولندية الأصل تستخدم في سياقها الأمريكي، بمعنى قتل تشريع ما، عبر استخدام القواعد لتعطيله إلى ما لا نهاية. و«الفليبستر» في أكثر صوره شهرة، هو أن يظل عضو مجلس الشيوخ المعارض لتشريع ما، يتحدث لما لا نهاية، وبلا توقف على مدار ساعات كاملة، وصلت في إحدى المرات لأربع وعشرين ساعة متتالية، بما يشل عمل المجلس، وهو الشلل الذي لا ينتهي إلا بتصويت 60 عضواً على وقفه، وتلك الصورة هي التي سجلها الفيلم السينمائي الشهير «السيد سميث يذهب لواشنطن»، إلا أن هناك صوراً أخرى متعددة لاستخدام «الفليبستر» لا تتطلب ذلك الجهد الشاق من الأعضاء. و«الفليبستر» معناه قدرة 41 عضواً على قتل تشريع يؤيده 59 عضواً!
والجدل الراهن أثاره رد فعل الولايات تجاه نتائج انتخابات الرئاسة، فلأن بايدن مدين بفوزه لسود أمريكا، عبر حملة التعبئة في أوساطهم للتصويت بكثافة مرتفعة، يبتكر الجمهوريون سبلاً تمنع تكرار ذلك، فتقدموا في المجالس التشريعية بالولايات، بأكثر من 250 مشروع قانون في 43 ولاية، لتقييد الحق في التصويت، تستهدف الأقليات تحديداً. ومحاولات تقييد الحق في التصويت قديمة قدم التجربة الأمريكية، وهي ظلت على مدار التاريخ مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعنصرية، فبعد إلغاء الحكومة الفيدرالية للعبودية، راحت الولايات تخترع قواعد على المستويات المحلية، لحرمان السود المحررين من التصويت.
وظل هذا الوضع قائماً حتى صدر في عام 1965 قانون الحق في التصويت، والذي حرم الولايات من تغيير قوانين الانتخابات قبل أن توافق عليها الحكومة الفيدرالية، لكن عام 2013 شهد انتكاسة كبرى حين ألغت المحكمة العليا ذلك النص، فعادت الولايات تستخدم الممارسات التاريخية ذاتها، بعبارة أخرى، بعد عقود أربعة كاملة، عادت تلك الولايات لسابق عهدها في استهداف الأقليات، عبر سلسلة قوانين لحرمانهم من التصويت، وهو الأمر الذي ازداد كثافة، بعدما تبين للجمهوريين أن السود وغيرهم من الأقليات قادرون على هزيمتهم في مجتمع سيصبح فيه البيض أقلية بحلول 2040.
ومن هنا، خرجت الدعوات للكونغرس بإصدار تشريع جديد كتشريع 1965 يحمي الحق في التصويت من ممارسات الجمهوريين، التي تهدف للالتفاف حول الإرادة الشعبية عبر حرمان قطاعات كبيرة من التصويت أصلاً، لكن مثل ذلك التشريع سيصطدم لا محالة بعقبة «الفليبستر» بمجلس الشيوخ، حيث سيستخدمها الجمهوريون لقتل التشريع، وهو الأمر الذي فجر الدعوات من داخل الكونغرس وخارجه لإلغاء «الفليبستر»، أو على الأقل تعديل طريقة استخدامه، ليكون أقل تعويقاً لصدور التشريعات.
المفارقة الأهم في ذلك كله هي أن «الفليبستر» ظل منذ بداية القرن التاسع عشر الأداة الرئيسية لوأد تشريعات الحقوق المدنية عموماً، ليس فقط الحق في التصويت، فما أشبه اليوم بالبارحة في مجتمع لا تزال العنصرية هي معضلته الكبرى.