بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي
الشرق اليوم – بعد شهور من الهدوء، عاد النقاش العام في فرنسا حول “التدخل التركي” و”شبكات التأثير التركي الدينية”، في أعقاب قرار بلدية مدينة ستراسبورغ، تقديم منحة مالية بقيمة أكثر من 2.5 مليون يورو للمساهمة في تشييد مسجد تبنيه جمعية “مللّي غوروش” الإسلامية الموالية لتركيا، الأمّر الذي اعتبره وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، “تمويلاً للتدخل الأجنبي في فرنسا”، مشيراً إلى أن المنظمة التركية “جزء من الإسلام السياسي”.
بدأ جامع أيوب سلطان نشاطه في عام 1996، كمسجد صغير تؤمه الجالية التركية في ستراسبورغ، ليشهد لاحقاً العديد من أعمال التوسعة. وفي السنوات الأخيرة، أطلقت “مللي غوروش” مشاريع توسعية، بدعم مالي من أعضائها، وأغلبهم ينتمي للطبقة التجارية التركية المهاجرة، وكذلك بتمويل خارجي من دول خليجية مثل قطر. وأكثر هذه المشاريع دلالة على ذلك هو جامع أيوب سلطان المصمم على الطراز العثماني، والذي تريد الجماعة التركية أن تجعل منه أكبر مسجد في أوروبا في المستقبل، بميزانية إجمالية تناهز 32 مليون يورو، وكان مقرراً أن يفتتح في السنة الحالية، إلا أن مشاكل التمويل أوقفت العمل في ورش البناء منذ صيف عام 2019، بعد أن تم بالفعل بناء المبنى بنسبة 50 في المئة، لكن التبرعات بالكاد تجاوزت 2 مليوني يورو. ويبدو أن الجدل الذي أحدثته التمويلات القطرية للجماعات الإسلامية في فرنسا، قد أوقف الدعم القطري لمشروع المسجد.
يحظر قانون العلمانية الفرنسي تمويل الدولة للمؤسسات الدينية جزئياً أو كلياً، ويمنع السلطة التنفيذية من التدخل بأي شكل من الأشكال في إدارة هذه المؤسسات، بيد أن الأمر لا يخلو من استثناءات. في إقليم ”الألزاس- موزيل” على عكس بقية فرنسا، يمكن للطوائف الدينية الحصول على إعانات من المال العمومي، لا سيما لبناء دور العبادة. وهذا ناتج عن جزئية في القانون المحلي، كرّسها نظام التوافق لعام 1802، والذي لم يتم إلغاؤه في عام 1905، تاريخ إقرار مبدأ فصل الدين عن الدولة، وبقي سارياً تحت الاحتلال الألماني، ولم يتغير بعد تحرير الإقليم في 1945. ورغم أن الإسلام ليس إحدى الطوائف الدينية الأربع التي يعترف بها هذا الحق، ولكن من أجل الإنصاف، قرر مجلس بلدية ستراسبورغ في عام 1999 اعتماد القاعدة نفسها لجميع الأديان. ومنذ ذلك الحين، أصبح يمكن للبلدية أن تتحمل المدينة 10 في المئة من التكلفة الإجمالية لبناء دور العبادة والمراكز الدينية.
لكن الجدل الدائر اليوم، لا يستهدف تمويل دور العبادة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، لكن مثاره هو منظمة “مللّي غوروش” التركية، والتي رفضت قبل أيام التوقيع على “ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا” بسبب الفصل السادس في الميثاق والذي “يدين أي شكل من أشكال استعمال الإسلام لأغراض سياسية أو أيديولوجية ويرفض بوضوح أي تدخل من الخارج في إدارة المساجد”. وقد برّرت المنظمة رفضها بأن الميثاق: “من المرجح أن يضعف أواصر الثقة بين مسلمي فرنسا والأمة. كما أن بعض مضامينه تنال من شرف المسلمين في شكل اتهامي وتهميشي”.
في شباط (فبراير) 2020 وقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل خطيباً في مدينة ميلوز، شرق البلاد، وقال: “لن أسمح بأن تكون قوانين تركيا سارية على التراب الفرنسي”. وتحدث الرئيس الفرنسي، خلال رحلته إلى الشرق والتي خصصها لمحاربة “الانفصالية الإسلامية”: “لن أسمح لأي دولة أجنبية أن ترعى على أرض الجمهورية، نزعة انفصالية سواء أكانت دينية أو سياسية أو قومية”. اختار ماكرون الشرق، ليوجه انتقاداته للنظام التركي، لأن الأقليم المحاذي للحدود الألمانية يعتبر مركز ثقل الجالية التركية في البلاد، والتي يفوق عددها 700 ألف نسمة، يحمل أكثر من نصفهم الجنسية الفرنسية، وقد تشكل هذا الشتات التركي في بداية سبعينات القرن الماضي عندما وصلت أعداد كبيرة من العمال الأتراك إلى فرنسا، بعد توقيع اتفاق العمل بين فرنسا وتركيا. واستقر أغلبهم في الإقليم الشرقي لقربه من ألمانيا، التي تعتبر مركز الشتات التركي في أوروبا.
بفضل قوانين لمّ الشمل العائلي، ومع انضمام العائلات، أصبحت الهجرة التركية مستدامة، فيما تلاشت مشاريع العودة النهائية إلى تركيا تدريجياً، كما أكسب خيار التجنس زخماً في منتصف التسعينات من القرن الماضي، بخاصة بالنسبة إلى الشباب من الجيل الثاني، الذين ولدوا وتعلموا في فرنسا، فرصاً جديدة لهم وتشكلت منذ ذلك الوقت طبقة بورجوازية تركية لها وزن اقتصادي واجتماعي، تعمل أساساً في قطاعات البناء والمطاعم والسفر والخدمات.
أدى تشكل هذا المجتمع التركي الصغير داخل فرنسا إلى بروز مؤسسات دينية لتنظيم شؤون “الإسلام التركي”، بعضها تشكل على أساس رسمي من خلال الدولة التركية وسعيها في السيطرة على جاليتها في الخارج، وأهمها ”ديتيب” وهي الفرع الفرنسي لمديرية الشؤون الدينية التركية، وقد تأسست منذ الثمانينات من القرن الماضي للإشراف على المساجد التركية والأئمة الأتراك، وكان هدفها في البداية حماية الجالية التركية من تيار الإسلام السياسي الذي تزعمه حينذاك نجم الدين أربكان.
وبموازاة المؤسسة الرسمية، أسس أربكان منظمة “مللّي غوروش” (الرؤية الوطنية) – وهي الذراع الأوربية لتيار أربكان – وكان هدف المنظمة السيطرة على الشتات التركي وحشد التأييد للتيار الإسلاموي التركي من خلال الدعم المالي والديني، حيث شكلت الجاليات التركية البرجوازية، أحد أهم مصادر الإسلاميين الأتراك لعقود، بسبب التضييق الداخلي خلال سنوات سيطرت الأحزاب العلمانية على السلطة. ومن مركزها في مدينة كولن الألمانية توسعة منظمة أربكان نحو أغلب دول أوروبا الغربية وبخاصة نحو فرنسا وأصبحت تدير نحو 300 جمعية ولديها حوالي 100 ألف عضو.
لكن مع وصول حزب “العدالة والتنمية” للسلطة في تركيا في عام 2002، تحولت المنظمات التركية الإسلامية في فرنسا، من مجرد مؤسسات تشرف على نشاط الجالية إلى جزء من أدوات السياسة الخارجية التركية. فيما سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التنسيق بين عمل المنظمتين الرسمية والأربكانية، وقد نجحا في حجز مكان داخل “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” منذ عام 2004، بل نجح في 2017 في رئاسة المجلس من خلال أحد أعضاء حزب “العدالة والتنمية”، أحمد أوغراس.
وقد استفاد النظام التركي من القوانين العلمانية الفرنسية، والتي تمنع الدولة من الإشراف على الشأن الديني في البلاد، لينسج شبكات تأثير ديني للسيطرة على الشتات التركي والتأثير على عموم المسلمين. لكن هذه النزعة التدخلية قد تعززت في السنوات الأخيرة بالتوازي مع التحول الاستبدادي والقومي الإسلاموي في أنقرة، حيث تسعى أنقرة إلى لعب ورقة مجموعة الضغط القادرة على التأثير في الممثلين الفرنسيين المنتخبين المحليين خلال الانتخابات البلدية، أو حتى الممثلين المنتخبين في التشريعيات، في العلاقات الفرنسية التركية، أي جعل الشتات التركي سلاحاً سياسياً لصالحها. إضافة إلى ذلك، تدعم أنقرة افتتاح دورات اللغة والثقافة التركية للأطفال في الشتات، وذلك من خلال مناهج تركية إسلاموية وبمساعدة المنظمات الدولية التابعة لرئاسة الشؤون الدينية، مثل “مؤسسة المعارف” التي تمول المدارس في كل الأنحاء.
لكن هذا التأثير، لا يبدو أنه سيتوقف على قطاعات التعليم والشؤون الدينية، أو في الاستحقاقات الانتخابية المحلية، بل يمكن أن يتوسع نحو التدخل في مسار الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذا ما حذر منه الرئيس الفرنسي “من عزم أنقرة التأثير في الانتخابات الرئاسية المقبلة”. وقال ماكرون خلال وثائقي بثته قناة التلفزيون الفرنسية الخامسة: “بالتأكيد. ستكون هناك محاولات للتدخل في الانتخابات المقبلة. هذا مكتوب والتهديدات ليست مبطنة”.