بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- هل تطوى صفحة العدوان العسكري الأميركي على العراق عام 2003 تشريعياً داخل الولايات المتحدة، وتنتهي بذلك صلاحية الرئيس الحربية التي منحت للرئيس جورج بوش الابن بموافقة من الكونغرس بناء على طلب الرئيس في الـ11 من أكتوبر 2002 تمهيداً لذلك الاجتياح العسكري، مثلما شكلت تفويضاً تشريعياً لأي قرارات حربية لاحقة مثل التي اتخذها الرئيس السابق دونالد ترامب في الضربات التي قتلت الجنرال الإيراني قاسم سليماني وزميله أبومهدي المهندس قرب مطار بغداد يناير العام الماضي، أو داعماً للضربة الجوية التي أمر بها الرئيس جو بايدن على مقر للميليشيات الشيعية العراقية على الحدود السورية – العراقية في الـ26 من فبراير الماضي، رغم أن البيت الأبيض أوضح أنها استندت إلى المادة الثانية من الدستور الأميركي التي تفوض باستخدام القوة لحماية الأميركيين؟
التقارير الإخبارية تشير إلى نشاط وحوارات مكثفة حالياً داخل أروقة مجلسي النواب والكونغرس في الولايات المتحدة تستهدف إنهاء وإبطال قانوني 2001 و2002 اللذين فوضا أي رئيس أميركي بعد واقعة الحادي عشر من سبتمبر باستخدام القوة.
ليس المقصود بهذا التوجه التشريعي تقديم اعتذار أميركي لقرابة مليون ضحية من العراقيين قتلوا خلال السنوات الثماني عشرة الماضية على يد قوات الاحتلال الأميركي ووكلاء الاحتلال الإيراني، بل تحويل سياسة إدارة بايدن الجديدة تجاه طهران من التخويف بالقوة و”العقوبات القصوى” إلى سياسات الصلح والتفاوض والترجي الدبلوماسي وفق حزمة من الإجراءات التطمينية المُقننة بعدم حصول أية عملية عسكرية ضدها أو ضدّ وكلائها في العراق مستقبلاً لأن الكونغرس سيمنعه، وتنفيذ خطة انتقال القوات الأميركية المتبقية في العراق التي ستقّل أعدادها عن 2500 جندي إلى مجموعات من الخبراء والفنيين يخدمون سياسة نظام الحكم في بغداد بعد أن يصبح لقوات الناتو الدور الرئيسي في تقديم الدعم الفني للقوات الحكومية العراقية.
في متابعة ورصد لكتابات طيف واسع من الخبراء والمستشارين السياسيين الأميركيين في الشهور القليلة الماضية، بينهم من تبوأ مواقع رسمية في عهد الرئيسين أوباما وترامب، نلاحظ تصاعد نبرة تحسين صورة إيران وإغماض العيون عن انتهاكاتها في العراق والمنطقة، ومحاولة إنهاء عهد استخدام القوة العسكرية ونزع الأنياب الأميركية الحادة، وإحلال أغصان الزيتون محلها مقابل ضمانات إيرانية شفهية بتخفيف دعمها لميليشياتها في العراق، لتصبح كما يتوهم المسؤولون الأميركيون الحاليون قوافل للبناء والتعمير وليست فصائل قتل وتشريد للعراقيين وتهديد لدول الخليج. عدد قليل من بين هؤلاء الخبراء يشخص وينبه إدارة بايدن إلى مخاطر سياسة الانكفاء التي ستؤدي إلى خسارة حلفاء واشنطن في المنطقة وإلى تصوير طهران لهذه التوجهات الإستراتيجية بأنها اعتراف بانتصارها وهزيمة الولايات المتحدة.
نشر ديفيد شينكر مقالاً في معهد واشنطن، وكان قبلها مساعدا لوزير الخارجية الأميركي، عام 2020 عن معاناته لإقناع المسؤولين العراقيين بضرورة ضبط الأمن وردع الميليشيات وحماية المصالح الأميركية في العراق، يقول “زرت العراق اثنتي عشر مرة وكانت محادثاتي مع رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي صعبة وعقيمة، كلما حاولت الضغط عليه لاتخاذ الخطوات اللازمة لحماية أرواح الأميركيين اعتاد المراوغة والتلاعب بالكلمات، حيث كان يردد على مسمعي أكثر من مرة قولاً مأثوراً هو المفضل لديه ‘إيران جارتنا وأنتم (الولايات المتحدة) أصدقاؤنا’”.
هناك لوبي مؤيد لإيران داخل الكونغرس الأميركي قد لا يكون أغلب أفراده ممن يمتلكون هوى للنظام الإيراني، لكن دوافع الخصومة الحزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين تستفيد منها طهران، بالمقابل انعدام وجود لوبي عربي رغم الملايين من الدولارات التي تصرفها حكومات السعودية وبعض دول الخليج في ميادين العلاقات العامة داخل الولايات المتحدة وخارجها. هذه واحدة من أمثلة فقدان العرب تأثيرهم في السياسات الأميركية، وُضعوا في محشر الدفع المالي المباشر للإدارات الأميركية من دون مقابل، خير مثال الانقلاب الجديد في سياسة بايدن ضد السعودية رغم ما دفعته من مليارات في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
أبرز الناشطين من أعضاء الكونغرس الذي يتزعم حالياً حملة إلغاء تفويض الرؤساء الأميركيين هو السيناتور تيم كاين، وهو من منظري وداعمي مشروع تقسيم العراق الذي أعلنه جو بايدن عام 2007، فقد صرح في مقابلة تلفزيونية “إن تقسيم العراق على أسس طائفية قد يكون البديل الواقعي الوحيد”. هذا السيناتور متحمّس جداً لوقف العمليات العسكرية ضد الميليشيات الإيرانية في العراق “الأعمال العسكرية الهجومية بدون موافقة الكونغرس غير دستورية في غياب ظروف استثنائية”. تبنى في مايو عام 2020 إلى جانب عدد من الديمقراطيين قرار عدم استخدام القوة ضد إيران دون إذن من الكونغرس، إضافة إلى تبنيه مشروع قرار يهدف لسحب القوات الأميركية من العراق وتجنب المواجهة مع إيران. هذا السيناتور كان من الداعين إلى قرار منع اعتبار الحوثيين جماعة إرهابية.
قد لا يتمكن أي رئيس أميركي من الخروج على قانون المؤسسات الحاكم للولايات المتحدة، لكنه يستطيع تفسير ثوابت التلاعب بقيم وتقاليد إمبراطورية القوة وفق سياسات تعكس اتجاهات القوى الفاعلة داخل منظومات القرار السياسي الأميركي على رأسها الكونغرس الذي يسيطر عليه الديمقراطيون حالياً. هذا ما طبقّه الرئيس الأسبق أوباما في قرارات سحب قواته من العراق عام 2012 والتراجع عن قرار قصف مواقع النظام السوري بسبب استخدامه الأسلحة الكيميائية في غوطة دمشق عام 2013.
بايدن يعيش مأزقاً المناورة فيه بالسياسة الخارجية محدودة لأنها تمس صميم مقتضيات الحفاظ على مكانة القوة الأميركية الأولى في العالم، هو يحاول التملص من أحكام إستراتيجية صنّفت إيران منذ التسعينات دولة مارقة إلى جانب كوريا الشمالية والعراق، لأنها وبمناسبات عدة قتلت مباشرة أو بواسطة وكلائها وعملائها مئات من الأميركيين، احتجزت 25 موظفاً أميركيا في مقر السفارة الأميركية بطهران 444 يوماً عام 1979، وفجرت قوات المارينز في بيروت عام 1983 عن طريق وكلائها في حزب الله، ذلك الحدث الذي اعتبر الأسوأ في عدد الضحايا قبل واقعة الحادي عشر من سبتمبر، ثم الهجمات عبر الميليشيات على السفارة والمصالح الأميركية العسكرية والدبلوماسية في العراق خلال عامي 2019 و2020.
ما هي المعايير الجديدة المتطابقة مع مكانة القوة والاقتدار للولايات المتحدة التي يبرر فيها بايدن عمليته السياسية المبرمجة لتأهيل طهران وتفويضها بالنفوذ في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، والصمت مثلاً على عبث الميليشيات الولائية بأمن شعب العراق وتنفيذ الحوثيين لهجماتهم الصاروخية على الأراضي السعودية؟ قد يستغل بايدن عدم اهتمام الأميركيين بالقضايا الخارجية لعدم اهتمامهم بها إلا عندما يفقدون أحباءهم من الجنود مثلما حصل في حربي فيتنام والعراق. لكنه يقع في تناقض حين يُصّعد في حربه الدبلوماسية ضد روسيا مثلاً ويهادن إيران ويضيّق على السعودية.
بايدن يبرر زيفاً عدم الاستمرار في سياسة استخدام القوة في المنطقة، لكن السبب الحقيقي هو أنها لم تعد مهمة بعد سحق العراق وتجويع شعبه، ولمنح إيران تفويضاَ غير مباشر لاحتلالها ونفوذها عبر لعبة الوكلاء. واليوم لا يستطيع التطلع بوجوه الملايين من الأطفال اليتامى فاقدي آبائهم وأمهاتهم والجائعين في بلاد الرافدين بسبب قرارات أسلافه العسكرية والسياسية التي سهلّت ومكّنت الأحزاب الطائفية الفاسدة التي شارك فيها عملياً قبل مجيئه للبيت الأبيض. بعد ذلك يريد عبر الكونغرس الذي يسيطر عليه حزبه تعطيل ذراع القوة لحماية طهران. فأية معايير يستند عليها؟ ثم كيف سيحافظ على مهابة القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وتتطلع شعوب إيران إلى معاونتها في الخلاص من النظام الجائر؟
هل يُطمئن بايدن الميليشيات الموالية لطهران التي وفق تقارير البنتاغون والمخابرات الأميركية هي المنفذة لجميع العمليات ضد المصالح الأميركية العليا، وإنه سيرّد عليها بحجب مواقع بعض الميليشيات المُصنفة قانوناً في الولايات المتحدة إرهابية لأنها تشجع على العنف والكراهية والتطرف والإرهاب، هكذا مثلما يفعل الصبيان في العالم الافتراضي، أو يحرّك النمط الجديد من الحرب السيبرانية؟
إذا كان بايدن يريد أن يطوي صفحة من إستراتيجية الأمن القومي الأميركي بعد الحادي عشر من سبتمبر التي وضعت خطر الإرهاب في أولوياتها، فهل انتهى الإرهاب في العالم أم إنه أخذ أشكالاً أخطر تتحول فيها النظم والحكومات راعية وداعمة لوكلاء من الميليشيات المنتشرة بين المجتمعات الإنسانية؟
هل سيكتب التاريخ أنه في عهد بايدن لم تعد لمكانة القوة الأميركية الأولى في العالم مهابة، وأصبحت جولات طائرات “بي 52” وصواريخ هوك وحاملات الطائرات في مياه الخليج للنزهة السياحية وليست لردع إيران؟ أم أن الأولويات حسب التصريح الأخير للسفير الأميركي لدى العراق ماثيو تولر هي “مساعدة الحكومة العراقية في محاربة الفساد ومواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى جانب مسألتي تحديات فايروس كورونا وأزمة التغير المناخي؟”.
لا شك أن نظام الولي الفقيه في طهران ينتظر بفرح الخطوات المقبلة ليصبح بعدها أي رئيس أميركي وفق تشريع الحزب الديمقراطي المنتظر نمراً بلا أنياب.