الشرق اليوم – اسـتُـخـدِمَـت كلمة “المرونة” عددا مذهلا من المرات منذ الإعلان عن جائحة كورونا 2019 قبل عام واحد، ويفسر أغلب الناس “المرونة” على أنها تعني عكس “الهشاشة”، وهي أقصى ما تتمناه الأسر والشركات في هذه الأوقات العصيبة، لكن المرونة باعتبارها هدفا جماعيا، تفتقر إلى الطموح، فالنقيض الحقيقي للهشاشة شيء أكثر جرأة، وأوروبا على وجه الخصوص تستطيع أن تذهب إلى ما هو أبعد كثيرا في السعي وراء هذا النقيض.
في كتابه الصادر عام 2012 بعنوان “مقاومة الهشاشة: الأشياء التي تَـكـسِـب من الفوضى”، يشير نسيم نيكولاس طالب إلى أن “الشيء الـمَـرِن يقاوم الصدمات ويبقى على حاله”، في حين أن “الـمُـقاوِم للهشاشة يتحسن”، ويُـذَكِّـرُنا هذا المفهوم بالقول المأثور الشهير الذي جاء على لسان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”. ربما تبدو الإشارة إلى هذه الحكمة مبتذلة بعض الشيء، نظرا للخسائر في أرواح البشر نتيجة للجائحة والمعاناة الهائلة التي أحدثتها، ولكن من الواضح أن منطقها قابل للتطبيق على سياقات بعينها.
يعمل نظام المناعة في أجسامنا، على سبيل المثال، بهذه الطريقة على وجه الدقة، وهو ما يسمح للقاحات بتحفيز إنتاج أجسام مضادة باستخدام عامل مُـعد، وعندما يتعلق الأمر بالسياسة العامة فمن المتوقع أن تخرج أنظمتنا من الضغوط التي تخضع لها حاليا أشد قوة، فتجتذب المزيد من الموارد وتستفيد منها بشكل أفضل، وخارج الحدود الوطنية، يصدق قول نيتشه على بعض هياكل الحكم المتعددة المستويات، مثل الاتحاد الأوروبي.
ينبئنا التاريخ بأن مشروع التكامل الأوروبي تَـشَـكَّـل بفعل الضربة تلو الأخرى، مع تحول أغلب الصعوبات إلى دروس مستفادة، ففي السنوات العشر التي سبقت اندلاع الجائحة، شهد الاتحاد الأوروبي الأزمة “الوجودية” تلو الأخرى: الركود العظيم، وأزمة اليورو، وأزمة الهجرة، ثم خروج بريطانيا، لكن الاتحاد الأوروبي تمكن من النجاة من هذا الـعَـقد المتقلب، وفعل ذلك من خلال تعميق تكامله، وهي حقيقة يجري تجاهلها غالبا. ينبغي للكتلة أن تستجيب بالطريقة ذاتها لأزمة كوفيد-19، التي ستصاحبنا لفترة طويلة، وقد نجحت الكتلة بالفعل في إرساء أسس متينة، فعلى الرغم من الكشف عن أوجه القصور التي تعيب الاتحاد الأوروبي، وأن إدارته للجائحة لم تكن بلا شائبة على الإطلاق، ينبغي لنا أن ندرك أن القادة الأوروبيين كسروا بعض المحظورات المهمة. على وجه الخصوص، عندما اندلعت الجائحة، كان بوسع قِـلة من المحللين أن يخمنوا أن الكتلة قد توافق على إصدار دين مشترك على نطاق ضخم لتمويل المنح للبلدان الأعضاء المتضررة من الركود.
سلطت أزمة “كوفيد-19” الضوء على احتياج الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من الضمانات، وقد رأينا هذا في بداية الجائحة، عندما تسببت ندرة الإمدادات الطبية الأساسية في كسر التضامن داخل أوروبا، ونحن نرى ذلك الآن أيضا، حيث تتسبب مشكلات الإمداد في إعاقة طرح اللقاحات في مختلف أنحاء الكتلة، ورغم أن الاتحاد الأوروبي يستطيع أن يتباهى بتمويل تطوير لقاح Pfizer/BioNTech الناجح، فإنه كان يفتقر إلى الحزم في مراحل أخرى من العملية، وإنشاء اتحاد صحي أوروبي من شأنه أن يساعد الكتلة في تصحيح أوجه القصور هذه وتخفيف المخاطر المنتظرة في المستقبل. ينطبق المنطق ذاته على العديد من المجالات الأخرى، وقد بدأت بالفعل مبادرات مثل التعاون المنظم الدائم في معالجة الانقسام المفرط في الاتحاد الأوروبي في ما يتصل بالأمن والدفاع، فمنذ تولى الرئيس جو بايدن منصبه، زعم بعض المراقبين مرة أخرى أن هذا التركيز ينطوي على خطر عرقلة تعاون أوروبا الأمني مع الولايات المتحدة، وخاصة في إطار منظمة حلف شمال الأطلسي، دون داع، لكن دعم قدرات أوروبا الدفاعية كان ضروريا قبل انتخاب دونالد ترامب، ولا يزال كذلك الآن، وسيتردد صدى فوائده على جانبي المحيط الأطلسي.
على نحو مماثل، يحاول الاتحاد الأوروبي تحسين مكانته في سباق التكنولوجيا العالمي من خلال تكثيف الجهود في قطاعات مهمة مثل الذكاء الاصطناعي والرقائق الدقيقة، وفيما يتصل بالانتقال إلى الطاقة الخضراء، ينبغي للكتلة أن تستكشف مبادرات التنمية الصناعية الأخرى على غرار تحالف البطاريات الأوروبي.
في القطاع المالي، بدأت تظهر ببطء سوق رأس المال الأوروبية، وفيما يتصل بالتجارة، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يعمل على توسيع حيز المناورة المتاح له إذا تمكن من تأمين دور أكثر بروزا لليورو في النظام النقدي الدولي. هذا من شأنه أن يسمح لبلدان الاتحاد الأوروبي بحماية أنفسها من تطبيق العقوبات التي تتجاوز الحدود الوطنية، والتي تتدخل في النشاط التجاري من خلال تعريض القدرة على الوصول إلى الأنظمة المالية وعملات دول أخرى للخطر.
من الممكن أن تندرج كل هذه المقترحات تحت مفهوم “الاستقلالية الاستراتيجية” الذي أصبح عنصرا أساسيا في مناقشات السياسة الأوروبية، ولكن من سوء الحظ، تسبب هذا المصطلح في سوء فهم وخلاف، وعلى هذا فقد يكون من الأفضل لتسهيل الإجماع الإقلال من التركيز على المصطلح والتركيز بشكل أكبر على الحقيقتين البديهيتين اللتين يسعى إلى التوليف بينهما. فمن ناحية، من الواضح أن الاتحاد الأوروبي من غير الممكن أن يتخلى عن التعاون المتعدد الأطراف، الذي يشكل جزءا من الحمض النووي للمشروع الأوروبي، وهو بالتالي أساسي للهيئة التي يُـظـهِـر بها ذاته خارجيا. من ناحية أخرى، من الواضح بالقدر ذاته أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتحلى بالإرادة والقدرة على تحديد وملاحقة أولوياته بطريقة تقوم على الاكتفاء الذاتي.
في نهاية المطاف، يتعين علينا كأوروبيين أن نطمح إلى العيش وفقا لمعاييرنا، وهو ما قد يرقى إلى احتضان الاستقلالية بمعناها الاشتقاقي الدقيق، وعلى هذا، فسيكون من قبيل المفارقة أن تتعارض التدابير المذكورة أعلاه مع هذه المعايير بالذات. بعبارة صريحة، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يمتنع عن التحول نحو تدابير الحماية أو اتخاذ خطوات قد تعرقل بدرجة خطيرة المنافسة الحرة بين الشركات الأوروبية. علاوة على ذلك، تستطيع أوروبا في كثير من الحالات تعزيز أمن إمداداتها من خلال التنويع بدلا من إعادة توطين الإنتاج.
بمجرد انتهاء الجائحة، سيواصل الاتحاد الأوروبي مواجهة معارك أطول أمدا، فبين أمور أخرى، أصبح بقاؤه كقوة سياسية عالمية من الدرجة الأولى مهددا، وستتفاقم المشكلة بفعل التدهور الديموغرافي وتآكل التعددية في مختلف أنحاء العالم حاليا.
لكن أوروبا لديها القدر الكافي من الأصول المادية وغير الملموسة لتأمين دور رائد في العالم، شريطة أن تستخدم هذه الأصول بذكاء واتساق. لا يعني هذا بالضرورة إنشاء “ولايات متحدة أوروبية”، لكنه يعني الحرص على احتضان التحديات كحافز لتقوية دفاعاتنا، بما يتفق مع مَـثَـل مقاومة الهشاشة الـمُـلـهِـم.
ترجمة: الجريدة
الوسومالاتحاد الأوروبي كورونا كوفيد-19 مقالات رأي
شاهد أيضاً
أمريكا والمسكوت عنه!
العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …