بقلم: ناجى صادق شراب – صحيفة إيلاف
الشرق اليوم- يلاحظ متتبع العلاقات الأميركية – الصينية ارتفاع منسوب التوتر واشتداد المواجهة بين واشنطن وبكين. في كل الأحوال، نحن أمام نموذج مغاير للنموذج الأميركي – السوفياتي واحتدام التنافس العسكري والأيديولوجي، فقوة الصين ليست بنفس القوة العسكرية، ولا الخلاف الأيديولوجي بنفس الحدة والاستقطاب.
يقول تشي يينهو نغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة زيمين الصينية: “من الصعب توقع المدى الذي سيبلغة تدهور العلاقات”، مشيرًا إلى أن الخصمين شرعا في الانتقال إلى حرب باردة جديدة. والقضايا الخلافية بينهما تتسم بالكونية وتمس مكانة وقوة كل منهما: هونغ كونغ، عملاق الاتصالات الصيني هواوي، بحر الصين الجنوبي، ومسلمي الأويغور، والقضايا التجارية والاقتصادية، والمواجهة الوبائية. وكما راينا، سيطرت هذة القضايا علي الإنتخابات الأميركية الأخيرة. والسؤال: كيف سيواجة بادين القوة الصينية، وبأي خيارات، وهل سيدخل معها في حرب باردة طويلة أم سيعتمد سياسة الاحتواء أو التفاهم والالتقاء المشترك عند نقاط معينة، والاعتراف بدور كوني للصين؟
كما يقول ستيفان والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، فإن أكبر قوتين اقتصاديتين عالميتين دخلتا في تنافس أمني طويل الأمد، تفاقمه رؤي استراتيجية اقتصادية. وأضاف: “الأمر يشبة الحرب الباردة في بعض الأوجه، لكن التنافس بينهما ليس بخطورة ما جري بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحده”. واليوم، بعد سبعين عامًا من نشوء الصين وتأسيسها، تركز على قوتها وترى في نفسها أنها تملك من مؤهلات القوة ما يجعلها قوة ندية ومنافسة للولايات المتحدة. وعلى عكس هذة التصورات والرؤى، يقول أوريانا سكيلار ماسترد من معهد أميركا للأبحاث إن التصور عن الصين خاطئ، وتهديد أيديولوجي خاطئ. وتفضل ماسترد عدم الحرب عن حرب باردة جديدة لأن ذلك سيقود إلى اعتماد تدابير استراتيجية غير مجدية، لكنها تحذر من احتمال واقعي لحرب ساخنة على مستويات لم تبلغها المواجهة مع الاتحاد السوفياتى، وتؤكد أن رفض الصين طمأنة الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي من شأنه أن يقود إلى الحرب ولو على مستويات منخفضة.
في فبراير 1946، ارسل جورج كينان، صاحب نظرية الاحتواء، برقية لوزارة الخارجية الأميركية (كان يعمل في السفارة الأميركية في موسكو) من 500 كلمة ملخصها أن الأيديولوجيا اللينينة الماركسية للسوفيات هي الدافع للتوسع السوفياتي، وأن هذا لا يعني أن المواجهة حتمية، وعلى الولايات المتحدة العمل على احتواء التهديد السوفياتى لضمان أمنها، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى انكماش القوة السوفياتية. هذا ما حدث فعلًا: تفكك الإتحاد السوفياتي وتراجعت روسيا اليوم إلى دولة كبرى بدلًا من دولة عظمى أو قوة ثانية.
الآن، تواجه الولايات المتحدة القوة الصينية كمنافس يرى في واشنطن النقيض أو الضد، ويسعي إلى السيطرة الكونية وتقديم نفسه البديل، والقوة التي من حقها أن تغير في بنية النظام الدولي لتصبح قطبًا في سياسة ثنائية القطب.
لا شك في أن الصين استفادت من تجربة الاتحاد السوفياتي وحاولت أن تقدم نموذجًا لأيديولوجيتها الشيوعية يقوم على الإنجاز والقدرة على مواجهة التحديات والمشاكل، ونموذج وباء كورونا مثال على هذة الرؤية.
اليوم، تتجدد إرهاصات الحرب الباردة، ويواجه صانعو القرار السياسي في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذا التحدي وكيفية مواجهته وهم في حاجة إلى تجديد صيغة الاحتواء وتحديثها. فلا شك في أن هناك خلافات كاملة بين السلوكين السياسيين السوفياتي والصيني، وهذا قد يستوجب البحث عن نظرية احتواء بصيغة جديدة لإنقاذ العالم من حرب باردة جديدة قد تدفع دول العالم الثالث ثمنها، كما في الحرب الأولى.
توجد حقيقتان بشأن قوة الصين: الأولى، الصين أصبحت قوة اقتصادية كونية لم يشهد مثيلها العالم من قبل، وهذا هو الاختلاف الأول مع الإتحاد السوفياتي الذي حقق قدرة وقوة عسكرية ونووية ندية للولايات المتحدة لكنه أفتقر إلى القوة الاقتصادية.. فللصين القدرة والقوة الاقتصادية وهي قادرة بالتالي على حفظ نموذجها؛ والثانية، الصين محكومة من الحزب الشيوعي المهيمن على القرار، بدور واضح للقائد الفرد، وبتقييدة للحريات، ما يجعلها غير قادرة على منافسة النموذج الديموقراطي بكل سلبياته، وهذا لا يجعل منها نموذجًا تستلهمه الدول الأخرى.
تقدم الصين نموذجًا هو الأمثل والأقدر أمام الدول النامية لتحقيق نموها وتقدمها وحماية استقلالها. إن حديث الغرب عن الديمقراطية يحرم الدول الفقيرة سيادتها وإمكاناتها الاقتصادية ويحولها كائنات تابعة. وكما حققت الصين نموًا كبيرًا بنظامها الديكتاتوري، تحتاج الدول الأخرى إلى تبني النموذج نفسه لتحقيق نموها، وبالتالي لا تحتاج إلى الديمقراطية، رغم أن هذه القناعات ليست مقبولة كثيرًا.
تؤكد القيادة الصينية أن الولايات المتحدة تريد أن تعيق تقدم الصين ونموها وقوتها، كما فعلت مع الاتحاد السوفياتى. ويبقي أن النموذج الصيني نجح في فرض وقائع قوة على الأرض، ولا يمكن الولايات المتحدة أن تنتهج سياسة الأحتواء نفسها التي انتهجتها مع النموذج السوفياتى، وهذا ما قد تقوم به الإدارة الأميركية الجديدة التي قد تتبنى سياسة العصا والجزرة في علاقاتها بالصين. لكن لا يمكن الولايات المتحدة أن تفرض سموها ومكانتها السابقة وهي أمام نموذج للقوة وأمام خيارات الاحتواء وتقاسم الشراكة والاعتراف بالنفوذ الصيني في بحر الصين، المنطقة التي قد تشكل حيزًا لحرب باردة جديدة.
أمام الصين طريق طويلة للوصول إلى قمة النظام العالمي. فالولايات المتحدة ما زالت تتفوق في مجالات كثيرة، من حيث حجم القوة النووية وضخامة ميزانية الدفاع التي تفوق الميزانية الصينية بثلاثة أضعاف، ومن حيث شبكة تحالف أكبر.
مع ذلك، يعمل ميزان القوة في شرق آسيا لصالح الصين. فهي تتمتع بقدرات باليستية كبيرة، وبقوة بحرية متنامية، ولن يستطيع أحد أن يوقف إرهاصات الحرب الباردة الجديدة التي بدأت فعليًا مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب التي فرضت العقوبات الاقتصادية والتجارية، ومع تزايد احتمالات المواجهة العسكرية.
السؤال المطروح اليوم: هل تنجح هذه الحرب في تغيير النظام الدولي القائم لنظام دولي جديد ثنائي أم متعدد القوة؟ فهذا يتوقف على قدرة النظام الأميركي ونجاحه في استعادة دوره والعودة إلى الشراكات العالمية، ونرى بعض صور ذلك مع الإدارة الأميركية الجديدة التي تتبنى شعار “العودة إلى أميركا”؛ والصين اليوم ليست الاتحاد السوفياتي عدما كتب كينان مذكراته.