بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم- نجح وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن في إصلاح العلاقة الأميركية مع الدول الأوروبية ومعظم أقطاب حلف شمال الأطلسي خلال زيارته أوروبا هذا الأسبوع، كما عمّق التفاهم مع دول مهمّة مثل الهند واليابان وأوستراليا في ما يبدو أنه بداية لصوغ نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة برضا الحلفاء والشركاء. الأولويات في السياسة الخارجية التي ستتولّى واشنطن صوغها بشراكة مع الحلفاء هي العلاقات مع الصين وروسيا والتطورات في منطقة آسيا – باسيفيك ثم يليها الشرق الأوسط بتركيز على إيران وإسرائيل وعلى الدول الخليجيّة العربية.
بعض الأزمات الإقليمية والنزاعات المحلية التي تريد إدارة بايدن معالجتها سيتم تنسيقه بعمق مع الأمم المتحدة مثل ملف اليمن، وبعض آخر سيتم إيكاله الى قيادة دولة أوروبية مثل ملف لبنان الذي تتأبّطه فرنسا بدعم أميركي. ما اكتشفته إدارة بايدن بسرعة هو صعوبة تحقيق تقدّم في المسألتين الأساسيتين اللتين جعلت منهما، سهواً، شبه امتحانٍ لها لتحقيق إنجاز سريع في السياسة الخارجية الأميركية، هما إيران واليمن. لذلك تعيد النظر في وتيرة التوقعات وتعود الى طاولة رسم الاستراتيجيات. وهذا يشكّل فرصة للتفكير خارج الصندوق، ليس فقط لأقطاب إدارة بايدن، وإنما أيضاً للدول الأوروبية والآسيوية الحليفة كما للأقطاب المحلية في نزاعات خطيرة كتلك التي في لبنان حيث الصين وروسيا وإيران عكفت على صوغ أدوارها مستغِلّة الفراغ الذي كان خلّفه عدم الاهتمام الأميركي قبل زيارة بلينكن الأوروبية.
قبل الخوض في خلفية ما حدث في بروكسيل أو في مصير المبادرة الفرنسية للبنان، من الضروري التوقف عند المؤتمر الصحافي الأول للرئيس جو بايدن الذي كان غريباً في استبعاده السياسة الخارجية باستثناء سؤالين عن العلاقة مع الصين وعن اختبار صاروخي جديد لكوريا الشمالية. التركيز على كوفيد-19، وأزمة الحدود مع المكسيك، والتوتّر بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري أمر مفهوم. أما عدم التطرّق إطلاقاً الى روسيا أو إيران أو إسرائيل، على سبيل المثال، فإنه ليس مفهوماً، أقلّه من منطلق حرية الصحافة في طرح السؤال. فإذا كان البيت الأبيض “حذف” الأسئلة حول المسائل الساخنة في السياسة الخارجية كما يقال، أو إذا كان صحافيو البيت الأبيض وافقوا على استثناء هذه القضايا رضوخاً للبيت الأبيض، فالأمر خطير ويدخل في خانة فرض الرقابة والخضوع لها. ثم هناك رسالة مُقلِقة وراء أداء الرئيس بايدن في مؤتمره الصحافي الأول حيث قرأ معظم الأجوبة. فإذا كان فريق البيت الأبيض خائفاً من كيفية تناول الرئيس لهذه المسائل، لا سيّما الصين وإيران، فإنه صوّره بذلك قائداً ضعيفاً عندما يتعلّق الأمر بالسياسة الأميركية الخارجية غير قادرٍ على التفكير السريع عند الحاجة.
أتى ذلك وسط ازدياد الكلام عن إيلاء السياسة الخارجية الى نائبة الرئيس كمالا هاريس التي ستقوم بالزيارات الخارجية باستثناء زيارة بايدن نفسه الشرق الأوسط هذه السنة. وكما قال أحد المراقبين “هو سيرسل الدعوات للقادة ليزوروا واشنطن، وهي ستقوم بالرحلات الى الخارج”، مشيراً الى أوامر الأطباء حمايةً للرئيس الأميركي البالغ من العمر 78 عاماً والذي، كما قال في مؤتمره الصحافي، ينوي الترشّح لولاية ثانية في سن 82.
صنع السياسة الخارجية يقع الآن في أيدي وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي يعمل من دون فريق متكامل نظراً لمخاوف إدارة بايدن من عدم مصادقة الجمهوريين على الأسماء المقترحة. لذلك يتم وضع ملفات فائقة الأهمية مثل العلاقة مع إيران ومستقبل الاتفاقية النووية JCPOA في أيدي مجلس الأمن القومي حيث لا حاجة الى تصديق الكونغرس هناك.
بلينكن يتقن اللغة الفرنسية وشخصيته ليست صداميّة ما ساهم في النقلة النوعية في العلاقات التي كانت سائدة مع الدول الأوروبية في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب والتي تميّزت بالتوتر والمحاسبة والمفاجأة. اليوم، هناك نبرة جديدة في التعاون والتنسيق بين واشنطن وبروكسيل وبرلين وباريس وغيرها، وهناك عزم على التلاقي والصلابة في المواقف نحو الصين وبالذات هونغ كونغ كما نحو روسيا.
الغائب هو وضوح السياسة policy رغم ما تم التوافق عليه في الجولة الأولى. وبحسب المصادر المطّلِعة، أن العناوين العريضة للمرحلة المقبلة في ما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط ستنطلق في الأسابيع القليلة المقبلة بمقترحات أميركية حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي غضون أسبوعين، سيتم اتخاذ القرارات في شأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية انطلاقاً من المواقف الإيرانية إزاء إصرار إدارة بايدن على تنفيذ طهران التزاماتها النووية بكل وضوح.
المؤشرات الميدانية والسياسية لا تبشّر باعتزام طهران التنازل عن شروطها رفع العقوبات قبل العودة الى الحديث عن الاتفاقية النووية، أو بإبراز حُسن النيّة عبر الملفّات الإقليمية مثل اليمن. لذلك، تتوقع الأوساط المقرّبة من التفكير الإيراني أن يلجأ “الحرس الثوري” الى رفع وتيرة سياسة “الاستفزاز والابتزاز” بما في ذلك في مياه الخليج كما في اليمن ولبنان وسوريا.
إدارة بايدن قرّرت عدم سحب القوات الأميركية من سوريا تحسّباً وأبدت أخيراً بعض الاهتمام بما يحدث في لبنان بعدما أدركت أن الوقت ليس لمصلحتها هناك، وأن خسارة لبنان كليّاً لإيران هي انتحارٌ استراتيجي يقارب الغباء. أدركت أن الاستهتار ببلد تقع سوريا على شماله وإسرائيل على جنوبه وتخترقه تركيا عبر الأراضي السورية إنما هو مُكلف على مستويات عدّة وملفّات تمتد من تنمية الإرهاب بمختلف طوائفه الى امتداد الهجرة منه نحو أوروبا الى حرب أهلية مدمِّرة الى حرب بالنيابة غير مباشرة بين إيران وإسرائيل ينفّذها “حزب الله” في لبنان. لذلك استيقظت إدارة بايدن قليلاً عبر تفعيل الوسائل الدبلوماسية، لكنها حتى الآن ما زالت بلا سياسة واضحة ذات أسنان. فالخطر ما زال وسيبقى طالما لا ينطوي تناول ملف لبنان على أداة العقوبات وطالما تعتقد إيران أن لبنان مِلكٌ لها وورقة ثمينة في المفاوضات.
الخبير النووي الإيراني في جامعة برنستون والناطق السابق لإيران في مفاوضاتها النووية، سيد حسين موسافيان، شارك هذا الأسبوع في الحلقة الافتراضية الـ31 لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي سويّة مع مانيويل لافون رابنوي مدير مركز التحليل والتخطيط والاستراتيجي في وزارة الخارجية الفرنسية، وزياد بارود وزير الداخلية الأسبق في لبنان، وبراين كاتوليس المقرّب من أقطاب إدارة بايدن والزميل في مؤسسة “أميركان بروغرس”.
أطروحات موسافيان كانت لافتة وانطوت على رسائل ليس واضحاً إن كانت طهران تسوّقها أو تختبرها، من ضمنها قوله إن لا مجال اليوم للتفاهم أو التقارب مع واشنطن والعواصم الأوروبية، ولا وسيلة لتناول قضايا المنطقة سوى عبر حوار ثنائي إيراني – سعودي، وأن حل أزمة لبنان يقتضي دعوة إيران الى المشاركة في الجهود الدولية لحل الأزمة. وقال إن “بايدن ضعيف جدّاً حالياً ما لا يمكّنه من اتخاذ القرار الكبير والشجاع والجريء الذي يعيد الصفقة النووية الى التنفيذ، ثم البدء بالقضايا الأوسع. إنهم (الأميركيون) ضعيفون جدّاً”. وأضاف انه لا يرى أفقاً “للتقارب rapprochement مع إدارة بايدن الحالية” وأن “علينا أن نفكر ونعتمد أكثر على التقارب بين دول المنطقة بدلاً من انتظار الولايات المتحدة”. وتابع قائلاً إن “في وسع إيران والسعودية، القوتين الأساسيتين في المنطقة، أن تجلسا معاً لإدارة علاقتهما وأمن الخليج الفارسي وحتى إيجاد الحلول في الدول الإقليمية مثل اليمن”، بدءاً “بإجراءات بناء الثقة”. وقال أيضاً موجّهاً كلامه الى فرنسا انه إذا كانت هناك مبادرة دولية في شأن لبنان “وانكم تعتقدون أن إيران لاعب أساسي، يجب عليكم أن توجّهوا الدعوة الى اللاعب الإقليمي الأساسي ليأتي الى الطاولة”.
رابنوي رد قائلاً إن المطلوب هو التمكّن من تشكيل حكومة في لبنان، والقيام بإصلاحات، وتقوية الجيش “للدفاع عن سلامة أراضي لبنان بدلاً من القول إن هذه مسؤولية حزب الله أو غيره”، وتعزيز المجتمع المدني للبحث في مستقبل “النموذج للبنان” Lebanese model. وتابع قائلاً إن “المطلوب هو حكومة تتجاوب مع الناس وليس مع “اقتسام السُّلطات” على نسق “ادعوني للجلوس الى الطاولة أوّلاً لأنني لاعب إقليمي أساسي”. وقال أيضاً إن إجراءات بناء الثقة تتطلّب التحدّث حول كيفية بناء “الأمن الجماعي حيث يكون الأمن الإقليمي غير قابل للتجزئة indivisible وليس مجرّد ملحق لاعتبارات الأمن القومي”.
ما دعا اليه رابنوي هو mobilization “تعبئة الأُسرة الدولية، إنما الوقت حان أيضاً للضغط على اللاعبين اللبنانيين لأن هذه مسؤوليتهم أولاً”. دعمه في ذلك زياد بارود مشيراً الى “مصلحة الأُسرة الدولية ألّا يسقط لبنان في حال انهيار الدولة كليّاً وكاملاً لعدة أسباب” ذكر منها “الإرهاب واللاجئين” ومذكّراً “بضرورة التنبه الى تداعيات التفاهمات الإقليمية، إذا حدثت، على التوازن الداخلي اللبناني الهش”. وقال إن “العقوبات وغيرها من الإجراءات يمكن أن تساعد، إنما التناول الشامل هو ما نحتاجه الآن”، وأضاف أن مع مجيء “إدارة أميركية جديدة غير تصادمية، أمامنا فرصة لتطوّر الأمور إيجابياً واني أؤمن بأن أي تعاون وتنسيق بين فرنسا والولايات المتحدة سيؤدّي الى نتائج جيّدة”، مؤكِّداً أن “لا خيار أمامنا سوى المبادرة الفرنسية”.
براين كاتوليس شدّد على أنه “ليس في مصلحة الولايات المتحدة أن تضع المسألة على الموقد الخلفي” نظراً الى الوضع الرديء والخطير في لبنان. ووافق الآخرين على ضرورة تعاون إدارة بايدن مع فرنسا على المستويات كافة من أجل التصدّي للفساد الحكومي في لبنان ومنع تحوّل لبنان دولة فاشلة. وعبّر عن قلقه من مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، وقال إن إدارة بايدن تبذل قصارى جهدها لمعالجة الخلافات مع إيران وتدرس الخيارات “إنما هذا سيستغرق وقتاً”.
ما تحتاجه الدبلوماسية الأميركية وكذلك الفرنسية هو التفكير خارج الصندوق في شأن إيران واليمن وسوريا والعراق وكذلك لبنان الذي يهوي الى الحضيض طالما ليس هناك انخراط دولي وإقليمي جاد، ولا هناك محاسبة للفاسدين في السلطة الحاكمة، ولا توجد سياسة واضحة لإبلاغ رسالة جدّيّة الى “الحرس الثوري” الإيراني في شأن “حزب الله” وخططهما للبنان.
جميل أن يتفاهم انتوني بلينكن مع نظرائه الأوروبيين في جولة وجدوه فيها ساحراً وجذاباً وهادئاً وعاقلاً، لكن هذا لا يكفي لأن إدارة بايدن ما زالت تبحث عن سياسة ذات معالم واضحة. ليس عيباً إيكال ملف كلبنان الى فرنسا طالما لا تنوي إدارة بايدن الاختباء وراء المبادرة الفرنسية لتزداد تقاعساً أو للتهرّب مما عليها أن تفعله والذي يشمل حشد الدعم الأوروبي والعربي وراء المبادرة الفرنسية. على إدارة بايدن، مهما كرهت إدارة ترامب، أن تستعيد في سياساتها نحو لبنان أدوات التحفيز وأدوات العقاب. عدا ذلك سيندم انتوني بلينكن وإدارة بايدن برمتها عندما يسقط بلد كلبنان كلّيّاً في أحضان إيران بعدما ينهشه فساد الطبقة الحاكمة الفاسدة. وهذا اليوم، للأسف، ليس ببعيد في لبنان.