الرئيسية / مقالات رأي / جائحة كوفيد-19 فرصة فريدة لإعادة البناء على نحو أكثر عدلاً في إقليم شرق المتوسط

جائحة كوفيد-19 فرصة فريدة لإعادة البناء على نحو أكثر عدلاً في إقليم شرق المتوسط

بقلم: د. أحمد المنظري

الشرق اليوم- أدركنا على مدى العقدين الماضيين أن حياة الناس اليومية وظروفهم الاجتماعية تؤثر بقوة على صحتهم ورفاههم. غير أن التقدُّم المُحرَز في معالجة هذه الظروف، التي غالبًا ما تتخطى نطاق قطاع الصحة، كان بطيئًا في شتى أرجاء العالم، وكذلك في إقليم شرق المتوسط، الأمر الذي حدَّ من قدرتنا على تعزيز العدالة الاجتماعية في مجال الصحة.

واليوم، وبعد أن قطعنا بضعة أشهر من العام الثاني منذ ظهور جائحة كوفيد-19، يصدر تقرير جديد لمنظمة الصحة العالمية أعدته اللجنة المعنية بالـمُحدِّدات الاجتماعية للصحة التي تتألف من خبراء عالميين وإقليميين. ويُسلِّط التقرير المعنون «إعادة البناء على نحو أكثر عدلًا: تحقيق الإنصاف الصحي في إقليم شرق المتوسط» الضوء على الفرصة السانحة للتصدي للإجحافات السائدة منذ فترة طويلة، والنظر في الوقت ذاته في التعافي من الجائحة.

ويسوق تقرير «إعادة البناء على نحو أكثر عدلًا» أدلة واضحة على التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية في معدلات الإصابة بكوفيد-19 والوفيات الناجمة عنه. وينطبق هذا الأمر في كل مكان، وإقليم شرق المتوسط ليس استثناءً.

ويبلغ إقليم شرق المتوسط حتى الآن عن عددٍ منخفض من الوفيات بسبب كوفيد-19، إلا أن تدابير الاحتواء، على الرغم من هذه الحقيقة، تُخلِّف آثارًا كبيرة للغاية على الإجحافات الصحية في الكثير من البلدان. وقد أدت سياسات الاحتواء إلى تفاقم المصاعب الاقتصادية التي تواجهها أصلًا قطاعات السكان الأفقر. ورُئي أيضًا أن هذه التدابير قد ساهمت في زيادة الفقر، وتعميق مشكلة انعدام الأمن الغذائي، وقلة الحصول على الخدمات الصحية الأساسية، وارتفاع معدلات البطالة، واتساع الفوارق في مجال عدم المساواة بين الجنسين.

ويبرز تقرير اللجنة أن مَن يعيشون في فقر وعَوَز، أو يعيشون ويعملون في ظروف مزدحمة، هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بكوفيد-19. وكانت هذه القطاعات ذاتها من السكان أكثر عرضة للخطر بسبب ارتفاع معدلات اعتلال الصحة في أوساطها. وهذه الحلقة المفرغة من الفقر وظروف العيش والعمل غير المناسبة واعتلال الصحة تهيئ الظروف لارتفاع معدلات الإصابة بكوفيد-19.

كذلك ترتبط الأسباب الرئيسية للإصابة بالمرض بأنواع معينة من العمل والمهن. ففي إقليم شرق المتوسط، أدى ارتفاع معدلات الإصابة بكوفيد-19 في صفوف العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى انتشار الفيروس في بداية الجائحة. ويفتقر العديد من بلدان الإقليم إلى الموارد الكافية لتزويد العاملين في مجال الرعاية الصحية بما يلزم من معدات الوقاية الشخصية. ولم يسلم العاملون في الخطوط الأمامية بالإقليم من الوصم والارتياب والعنف المرتبط بكوفيد19.

وتزداد مكافحة انتشار العدوى صعوبةً في مناطق النزاع، التي عادة ما يواجه فيها اللاجئون والنازحون داخليًّا معضلة مزدوجة؛ أحد شقيها نظم صحية هشة، والشق الآخر أحوال معيشية سيئة. ومن بين 58 مليون نازح ينتشرون في جميع أرجاء العالم، يأتي ما يقرب من 30 مليون نازح (52%) من إقليم شرق المتوسط. وهنا، يصير الحصول على الخدمات الصحية المناسبة تحديًا حقيقيًّا.

ومن غير المرجَّح، عامةً، أن يسعى المهاجرون والعاملون غير النظاميين إلى الحصول على الرعاية الصحية أو إجراء اختبارات كوفيد-19، مخافةَ أن يتعرضوا من وراء ذلك للحجر الصحي وفقدان دخولهم. وهؤلاء العاملون أكثر عرضة لفقدان وظائفهم ومواجهة المزيد من المصاعب المالية أثناء الجائحة. وتكون تدابير الاحتواء أكثر تأثيرًا وأشد وطأةً على إقليم تنتشر فيه العمالة غير النظامية، خاصة في البلدان المنخفضة الدخل، وبلدان الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط.

ويستمر في عصر الجائحة الكشفُ عن الآثار الوخيمة للإجحافات التي عانى منها الإقليم فتراتٍ طويلةً. وزادت بفعل الجائحة التحدياتُ التي يفرضها انعدام الأمن الغذائي الذي يؤثر بالفعل على الفئات الأكثر حرمانًا في بلدان الإقليم. ومن المنتظَر أن يؤدي هذا الوضع إلى تدهور الأوضاع الصحية وارتفاع معدلات الوفيات بين الأفراد الأكثر حرمانًا، لاسيما في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، والبلدان المتضررة من النزاعات.

ويواجه العالم ظاهرة عدم المساواة بين الجنسين. حتى إن المكاسب المحدودة التي حققتها بعض بلدان الإقليم في مجال المساواة بين الجنسين من المتوقع أن تتراجع. وسبق أن حذَّر الخبراء من احتمال تفاقم ظاهرة تأنيث الفقر، وزيادة العنف القائم على نوع الجنس، وزيادة زواج الأطفال، بوصفها نتائج مباشرة لتدابير الاحتواء.

وقد تحمَّلت مرافق الرعاية الصحية في جميع بلدان العالم فوق طاقتها بسبب الأعداد الكبيرة من المرضى بكوفيد-19. ورغم أن إقليم شرق المتوسط، كما سلفت الإشارة، سجَّل أعدادًا أقل من الحالات والوفيات المرتبطة بكوفيد-19 مقارنةً بالأقاليم الأخرى، فقد خلَّفت الجائحة آثارًا جسيمة على الخدمات الصحية الأوسع نطاقًا. وتأثَّرت بالسلب كلٌّ من خدمات تنظيم الأسرة، وخدمات صحة الأسنان، وإعادة التأهيل، وخدمات الرعاية الصحية الملطفة، والخدمات الصحية قبل الولادة، وخدمات الصحة النفسية، وخدمات تشخيص الأمراض غير السارية وعلاجها. أيضًا توقفت مؤقتًا برامج التمنيع في جميع أنحاء الإقليم، وهو ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض الـمُعْدِية مثل الحصبة وشلل الأطفال.

وعلى الرغم من قتامة المشهد والإجحافات الهائلة وتأثير الجائحة، فإن الجائحة تُقدِّم فرصةً فريدة لم نشهدها من قبلُ لإعادة البناء على نحو أكثر عدلًا في الإقليم.

فالاستجابة لكوفيد-19 تُسلِّط الضوء على الأهمية المحورية للصحة في عالمنا. وتتيح الجائحة فرصةً لإعادة بناء الثقة، وإصلاح التماسك الاجتماعي، والتقريب بين المجتمعات. وتأتي مع الجائحة فرصةٌ جديدة لبناء اقتصاد شامل ومستدام. وما من شكٍّ في أن التعافي المراعي للبيئة ستكون له مضاعفات اقتصادية أعلى مقارنةً بالنموذج التقليدي للنمو «غير المراعي للبيئة»، الذي يعتمد على أنشطة اقتصادية تدمر البيئة. وأمامنا فرصة ذهبية لإقامة مجتمعات يسودها السلام، وأقدر على معالجة الأبعاد الجنسانية للجائحة، مع الاعتراف في الوقت ذاته بدور المرأة في منع النزاعات وإحلال السلام.

وينبغي بذل المزيد من الجهود من أجل التخفيف من الآثار غير المتساوية لتدابير الاحتواء، مثل البطالة والفقر والجوع وقضايا الحوكمة والإنصاف بين الجنسين. وينبغي ألَّا يكون النمو الاقتصادي وحسبُ هو الشغل الشاغل الذي يُحرِّك الحكومات، بل ينبغي أن يُحرِّكها الطموح إلى تحقيق صحة أوفر لجميع السكان. وتوفير الدعم المالي، ورعاية الصحة النفسية، والتغذية الفُضلى، ونظم الحماية الاجتماعية الأقوى والأكثر فعاليةً، أمورٌ تفيد كثيرًا وتصنع المعجزات في هذا الشأن. وينبغي أن يكون الهدف هو القضاء على العنف القائم على نوع الجنس، وإتاحة الخدمات المالية والخدمات الأساسية للنساء والأطفال المحتاجين.

وستكون برامج التطعيم المنصِفة ضد كوفيد-19 خير شاهدٍ على أهم الإجراءات التي نتخذها إثباتًا لالتزامنا بتحقيق الإنصاف الصحي. وينبغي أن تحظى الفئات السكانية المعرضة للخطر، ومنها العمال المهاجرون واللاجئون والنازحون داخليًّا، بالأولوية في خطط نشر اللقاحات. وينبغي تنفيذ حملات موجَّهة للتوعية واتخاذ إجراءات تهدف إلى الحد من التردد في الحصول على اللقاحات بين الفئات السكانية الأكثر تعرضًا للخطر.

وتتيح لنا الجائحة فرصًا سانحةً للحد من أوجه عدم المساواة، وتبنِّي السلام، وتطبيق العدالة الاجتماعية من أجل مجتمعات أوفر صحة، تعم فيها الصحة، وتضمحل فيها الإجحافات.

وخلاصة القول إن ما نحتاج إليه في مجتمعاتنا هو إعادة البناء على نحو أكثر عدلًا، ويبدأ العمل بتحقيق الإنصاف الصحي، لأنه لن يكون أحد بمأمن حتى ينعم الجميع بالأمان.

نقلاً عن موقع العربية

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …