بقلم: أحمد مصطفى – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – كشفت حكومة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، عن رؤية شاملة للبلاد حتى 2030، تشمل الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية والاقتصاد وغيرها. وهدف تلك الاستراتيجية هو تعزيز مكانة بريطانيا عالمياً، ودورها في التحالف الغربي بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، أي بريطانيا العالمية وليست الأوروبية.
اهتمت وسائل الإعلام، وحتى السياسيون، بالبند الأكثر إثارة في استراتيجية بريطانيا العالمية، وهو التخطيط لزيادة الترسانة النووية البريطانية بنحو النصف تقريباً. وهذا طبيعي في ظل القلق من الانتشار النووي والمخاوف من تطوير دول جديدة، خارج النادي النووي العالمي، أسلحة نووية. وثار جدل في البرلمان البريطاني وخارجه حول ما إذا كان ذلك يعني إنهاء بريطانيا لتعهداتها الدولية بخرق البند السادس من معاهدة منع انتشار السلاح النووي لعام 1970.
الواقع أن زيادة عدد الرؤوس النووية ليست انتهاكاً قانونياً صريحاً، وإنما تتعارض مع روح المعاهدة. كما أن نظام الردع النووي البريطاني (صواريخ ترايدنت، وأغلبها على غواصات في القاعدة البحرية الرئيسية على شواطئ اسكتلندا) يحتاج إلى تحديث منذ سنوات طويلة. وسبق أن خططت حكومات سابقة لتحديثه، لكن لم يتوفر التمويل من الميزانية. ومن غير الواضح بعد كيف سيتوفر الآن! كما أن كل الاستراتيجية الجديدة تعتمد على أن تظل بريطانيا موحدة، رغم أن هناك تهديداً جدياً من الحزب القومي الاسكتلندي بإجراء استفتاء جديد على انفصال اسكتلندا هذا العام. وإذا انفصل الاسكتلنديون، وهو احتمال بعيد، فستفقد المملكة المتحدة وضعها، وستضيع جهود جعل بريطانيا قوة عالمية. ناهيك عن أن سلاح ترايدنت سيصبح في قاعدة «خارجية»، مثل القاعدة البريطانية في قبرص؛ لأنه لا يمكن نقله، فليس على بقية شواطئ بريطانيا مكان يصلح للغواصات النووية.
ليست الترسانة النووية فقط ما تحتاج لتحديث، فأغلب الدبابات لدى الجيش البريطاني قديمة، وهناك حاجة لطائرات مقاتلة جديدة وحديثة حتى مركبات الجنود الميكانيكية والأسلحة والذخائر بحاجة للتطوير والتحديث. ترصد الاستراتيجية البريطانية أكثر من ربع تريليون دولار لوزارة الدفاع لكل عمليات التحديث والتطوير تلك، لكن من غير الواضح كيف سيتم توفير ذلك المبلغ في ظل العجز الهائل في الميزانية نتيجة انكماش الاقتصاد بسبب أزمة «كورونا». وهذا ما جعل البعض، حتى من أنصار حزب المحافظين الحاكم يشككون في الاستراتيجية كلها، ويعتبرونها مجرد «تمرين ذهني جيد» وشرائح «باوربوينت» مبهرة لكن تنفيذها عملياً أمر آخر تماماً.
ينسحب ذلك على أغلب جوانب الاستراتيجية البريطانية الجديدة، وليس الجانب العسكري فحسب. فمن السعي لأن تكون بريطانيا قوة عالمية في مجال التكنولوجيا إلى ريادة مكافحة التغير المناخي يصعب تصور كيف سيتحقق ذلك على أرض الواقع. لكن الجانب الأكثر منطقية هو ما يتعلق بالسياسة الخارجية والاتفاقيات التجارية.
فبريطانيا الآن خارج أوروبا، وهذا أمر محسوم. واتفاق «بريكست» لا يلزم بريطانيا بكثير من المعايير والقواعد والقوانين الأوروبية في مجالات كثيرة. وهكذا، سيمكن لبريطانيا أن تتخذ مواقف من القضايا الدولية والإقليمية في مناطق العالم المختلفة ليست بالضرورة متفقة مع مواقف أوروبا. حتى في القضايا الداخلية، ستسنّ بريطانيا القوانين دون التزام بميثاق حقوق الإنسان الأوروبي، ولن تكون ملزمة أيضاً بقوانين العمل الأوروبية. وقد بدأت حكومة بوريس جونسون بالفعل التصرف على هذا الأساس. فقانون الشرطة الذي أقره مجلس العموم الأسبوع الماضي يعطي قوات الأمن صلاحيات للتصدي للمظاهرات والاحتجاجات يراها البعض انتهاكاً للحريات. وربما لو أن بريطانيا ما زالت ضمن الاتحاد الأوروبي لرفع النشطاء الحقوقيون دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية؛ لمنع الحكومة من تفعيل القانون.
كذلك أمام بريطانيا الآن الفرصة لعقد صفقات والتوصل لاتفاقيات تجارية واقتصادية دون التقيد بالمعايير الأوروبية. وهناك بالفعل مشروع قانون يتعلق بالتجارة مع الدول التي تنتهك حقوق الإنسان أعاده مجلس اللوردات لمجلس العموم بعد تعديله. والقضية الخلافية بشأنه أنه يسمح للحكومة بالاتفاقيات التجارية مع الصين رغم اعتبار البعض أن ما تفعله السلطات الصينية بأقلية الإيغور المسلمة يرقى إلى حرب إبادة.
ستتمكن بريطانيا من توسيع علاقاتها التجارية والاقتصادية مع دول آسيوية وإفريقية وفي أمريكا اللاتينية دون الحاجة لإثارة قضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، وغيرها من المعايير التي تتشدد فيها أوروبا. ومعروف أن الصين كسبت نفوذها في إفريقيا بهذه الطريقة، فهي تعقد الصفقات، وتقيم العلاقات مع الحكومات دون التعرض إلى مسائل سياسية أو حقوقية، ولا تربط استثماراتها بأي معايير تعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول التي تتعامل معها. بالطبع ستظل بريطانيا في الخطاب العام تستخدم تلك المعايير على اعتبار أنها «قوة أخلاقية» ضمن التحالف الغربي، لكن المصلحة البراجماتية ستجعلها تستفيد من «بريكست» إلى أقصى حد في علاقاتها الخارجية، سياسياً وتجارياً.