الشرق اليوم – يبدو أن الاتحاد الأوروبي لن يتأثر بكل ما يحصل، وبدل أن ينهار هذا الكيان ويضطرب كما يتوقع البعض، دفعت خطة “بريكست” بأعضاء آخرين إلى التراجع وتنفس الصعداء، فلا يعني ذلك أن ظاهرة التشكيك بالكيان الأوروبي تلاشت أو أن القادة الأوروبيين لا يستعملون الاتحاد الأوروبي أحياناً كورقة لمصلحتهم.
فاز رئيس الوزراء الهولندي، مارك روتي، بولاية رابعة هذا الأسبوع، فحصد “حزب الشعب” اليميني الوسطي الذي يقوده روتي أقل من ربع المقاعد في البرلمان، لكنه عدد كافٍ لاكتساب الأكثرية في النظام السياسي الهولندي المفكك، إذ سيكون هذا العدد كافياً أيضاً لتأليف حكومة شرط أن يتمكن روتي من تشكيل ائتلاف جديد، وهو أمر سيقوم به على الأرجح.
تنذر التطورات الأخيرة بأن القومية اليمينية في أوروبا تواجه المشاكل، حيث يسيطر التكنوقراط على الوضع، في الوقت الراهن على الأقل.
تتضح هذه النزعة في إيطاليا، حيث انهارت الحكومة التي تشمل “حركة خمس نجوم” الشعبوية في وقتٍ سابق من هذه السنة، ثم ظهر ماريو دراغي، رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال، وهو سياسي من النوع الذي وقفت “حركة خمس نجوم” في وجهه في الماضي، فهو الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي وداعم قوي للاتحاد الأوروبي.
في غضون ذلك، لا يزال إيمانويل ماكرون جزءاً من السلطة في فرنسا، وهو ليبرالي فخور بانتمائه وكان قد قارن نفسه يوماً بالإله جوبيتر، وفي النمسا، قرر رئيس الوزراء اليميني الوسطي البراغماتي، سيباستيان كيرز، في السنة الماضية تشكيل ائتلاف مع حزب “الخضر” بدل التحالف مجدداً مع “حزب الحرية” القومي، ووفي ألمانيا، ستتنازل أنجيلا ميركل الوسطية عن السلطة قريباً لأرمين لاشيت الذي يَعِد باستكمال سياساتها، وقد يتضرر حزب ميركل اليميني الوسطي بعد رحيلها، لكن من المستبعد أن يستفيد الشعبويون الألمان من هذا الوضع.
مع ذلك، لا تزال القوى التي تحرك النزعة القومية حاضرة، حتى لو أصبح القوميون في وضع صعب.
ما معنى هذه التطورات كلها؟ في المقام الأول، يسهل أن نستنتج أن القومية قد تسيء إلى النظام القائم، فقد يحبذ الناخبون الاضطرابات أحياناً، لكن يسهل أن يقاوموها أيضاً ويفضلوا الاستقرار. هذه النزعة تفسّر نجاح روتي الذي لم يزعم يوماً أنه قائد واقعي في الدولة، وهي تفسّر أيضاً استمرارية ميركل التي استعملت مهاراتها الضمنية لتجاوز السخط الألماني تجاه أزمة اللاجئين وتدابير الإقفال التام بسبب تفشي فيروس كورونا.
على صعيد آخر، أدى انتشار فيروس كورونا إلى توسّع رغبة الناس في استرجاع الاستقرار، إذ وصل دراغي إلى السلطة في إيطاليا لأن جميع الفرقاء، بما في ذلك عدد كبير من الشعبوييين اليمينيين، اعترفوا بأن 2021 لن يحتمل أي خلل حكومي. اجتاحت الاضطرابات الثقافية بسبب “كوفيد19” أوروبا على غرار الولايات المتحدة، لكن كما حصل في واشنطن، تبرز حاجة كامنة إلى الأمن ويطغى شعور عام بأن الحكومة تبذل الجهود اللازمة وتعرف ما تفعله.
أخيراً، يبدو أن الاتحاد الأوروبي لن يتأثر بكل ما يحصل، وبدل أن ينهار هذا الكيان ويضطرب كما يتوقع البعض، دفعت خطة “بريكست” بأعضاء آخرين إلى التراجع وتنفس الصعداء، فلا يعني ذلك أن ظاهرة التشكيك بالكيان الأوروبي تلاشت أو أن القادة الأوروبيين لا يستعملون الاتحاد الأوروبي أحياناً كورقة لمصلحتهم، لكن حتى الشخصيات القومية تراجعت عن دعواتها إلى الانسحاب من الاتحاد بالكامل، كما تستطيع أبرز الكتل الإمبريالية والعابرة للأوطان الصمود إذا سادت فيها درجة كافية من الحذر لمنع انقلاب الوضع القائم. بعبارة أخرى، من المستبعد أن نشهد قريباً تطورات مثل انسحاب فرنسا أو إيطاليا أو بولندا من الاتحاد الأوروبي.
في مطلق الأحوال، قد تعيد النزعة الشعبوية ترسيخ نفسها سريعاً حين يتلاشى الوباء الراهن، وتتجدد سياسات النظام الاعتيادي، وتتوسع مظاهر الفقر واللامساواة، ومن المتوقع أن تكون الانتخابات الرئاسية في فرنسا خلال السنة المقبلة اختباراً مبكراً لهذه الفرضية، إذ لا تزال نِسَب تأييد ماكرون جامدة في حين تستعد مارين لوبان لإطلاق حملة قوية أخرى من خارج أوساط السلطة.
ترجمة: الجريدة