بقلم: نيكولاس ريد لانجن
الشرق اليوم- ترك لنا دونالد ترامب أسوأ جرائمه ضد الديمقراطية الأمريكية والرئاسة الأمريكية حتى نهاية فترة ولايته الوحيدة في المنصب تقريبا، عندما رفض الاعتراف بفوز خصمه في الانتخابات واستدعى حشدا من الغوغاء لاجتياح مبنى الكونجرس الأمريكي في كابيتول هِـل. لكن فعلته الأخيرة ــ استغلال سلطة العفو الرئاسي دون قيد أو شرط ــ لم تكن أقل فظاعة وسفورا. الواقع أن ترامب، الذي وزع صكوك العفو بأوامر تنفيذية بكل حبور وابتهاج على أكثر من 140 شخصا في آخر 12 ساعة قضاها في منصبه كرئيس ــ بما في ذلك ستيف بانون، كبير الخبراء الاستراتيجيين الذي تحول إلى محتال ــ باء بالفشل والخيبة في جهوده الرامية إلى إلغاء نتيجة الانتخابات، وهو ما تجلى بوضوح في هذا الامتياز الملكي الأخير.
من الغريب أن يمتلك الرؤساء مثل هذه السلطة غير القابلة للمساءلة على الإطلاق. لقد رَفَـضَ مؤسسو أمريكا الملكية المطلقة وزخارفها (مثل ألقاب النبالة)، ومع ذلك فإن سلطة العفو تنحدر من مثل هذه السلطة الملكية على وجه التحديد، امتياز الرحمة الملكي.
في هيئته الأصلية، أعطى هذا الامتياز ملوك بريطانيا سلطة تكاد تكون غير مقيدة في العفو عن المدانين بارتكاب جرائم. ومثله كمثل العفو الرئاسي، لم يكن العفو الملكي يبرئ المذنبين بشكل كامل من خلال محو إدانتهم، لكنه كان ينقذهم من أسوأ عواقبها ــ في أغلب الأحيان حكم الإعدام. نظريا، كان امتياز العفو أداة حميدة لتصحيح الظلم وإبراز الإحسان الملكي؛ غير أنه في حقيقة الأمر كان دوما ملائما لإساءة الاستخدام.
نظرا لإدراك مؤسسي أمريكا هذا الخطر، فإن رفضهم وضع ضوابط أكثر فاعلية على السلطة التنفيذية يبدو ساذجا. كانوا على يقين من أن إعطاء الكونجرس سلطة عزل الرئيس من شأنه أن يخدم “كضمانة عظيمة”، على حد تعبر جيمس مونرو. لكن مونرو لم يكن يتصور أن أعضاء مجلس الشيوخ من الممكن أن يقعوا أسرى لزعماء الدهماء أو يربطوا أنفسهم بولاءات حزبية قَـبَـلية، كما فعلت الغالبية العظمى من الجمهوريين في محاكمتي عزل ترامب.
للمواءمة بين سلطة العفو وغرضها الأصلي، ينبغي للأمريكيين أن ينظروا في الكيفية التي تخلصت بها محاكم المملكة المتحدة ببطء من استخدام السلطة التنفيذية لمعظم، إن لم يكن كل، صلاحيات الامتياز الملكي من خلال إخضاعها لقدر متزايد من التدقيق القضائي.
في ثمانينيات القرن العشرين، وجد مجلس اللوردات (الذي نُـقِـلَـت وظائفه القضائية إلى المحكمة العليا المنشأة حديثا في المملكة المتحدة في عام 2009) أن أي وزير في الحكومة، لمجرد أنه كان يعتمد ببساطة على سلطة امتياز، “لا يجوز له أن يتمتع، لهذا السبب فقط، بالحصانة من المراجعة القضائية”، ورأى المجلس أن الأمر متروك للمحاكم لتقرير ما إذا كان من الممكن إعادة النظر في هذه السلطة. لكن المحاكم كانت متحفظة في التأكيد على قدر أكبر مما ينبغي من السلطة، وفي الحالات حيث كانت السلطة مرتبطة بالسياسة العليا، على النحو الذي قد يؤثر على أمور مثل السياسة الخارجية أو النزاع المسلح، كانت المحاكم بطيئة في التدخل عادة.
مع ذلك، في العقود الأخيرة، أصبح القضاء في المملكة المتحدة غير راغب على نحو متزايد في السماح للحكومات بأن تفعل ما تشاء متجاهلة آلام الآخرين ودون أي تدقيق في تصرفاتها على حساب المبادئ الديمقراطية الأساسية من خلال رفع شعار “السياسة العليا”. الواقع أن القرار الصادر عن المحكمة العليا في المملكة المتحدة بشأن قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2019، (Cherry/Miller (No.2))، يُـظـهِـر أن ما يزال متبقيا من هذا الامتياز غير القابل للانتهاك قليل.
في هذه القضية، سُـئِـلَت المحكمة ما إذا كان اقتراح رئيس الوزراء بوريس جونسون بتعطيل البرلمان، والذي كان الهدف منه بوضوح تحقيق شكل من أشكال الخروج من الاتحاد الأوروبي لن يوافق عليه أعضاء البرلمان، يتمتع بالشرعية. وبصرف النظر عن حقيقة مفادها أن دعوة البرلمان إلى الانعقاد أو تعطيله سلطة امتياز أصلية، فقد قرر القضاة بالإجماع أن هذا الامتياز يتجاوز “حدود السلطة المشروعة”، لأن تعطيل البرلمان أحبط قدرته على “تنفيذ وظائفه الدستورية كهيئة تشريعية… وفي الإشراف على السلطة التنفيذية”.
حتى برغم أن المحاكم في المملكة المتحدة عملت على تقليص نطاق الامتياز، فحكمت في أمور لم يكن من الممكن المساس بها سابقا، فقد سعت الحكومات البريطانية إلى اكتساب سلطات جديدة غير خاضعة للرقابة. من الشائع الآن أن يجيز التشريع للوزراء “تعديل أو إلغاء أو استبدال” أجزاء من القانون، أو القوانين المرتبطة به، إذا كان القيام بذلك متلائما مع الغرض العام من التشريع أو أهداف الحكومة الأعرض. علاوة على ذلك، تقترن مثل هذه البنود غالبا بفقرات تحاول تقييد أو “تقويض” قدرة السلطة القضائية على مراجعة القرارات التي يتخذها وزراء يمارسون هذه الصلاحيات.
بلغت شهوة السلطة هذه ذروتها الحالية في الخريف الماضي في مشروع قانون السوق الداخلية الذي اقترحته حكومة جونسون، والذي شغل هيئات التنظيم المحلية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ورغم أن العديد من أعضاء الحكومة أشادوا بخروج بريطانيا باعتباره فرصة لاستعادة “سيادة” البرلمان، فقد سعى مشروع القانون إلى تخطي الهيئة التشريعية تماما، ومنح الوزراء سلطة الحكم بمرسوم. كما سعى إلى منع المراجعة القضائية لأي قرار يتخذه الوزراء بموجب القانون، والسماح لهم في ذات الوقت باتخاذ قرارات تنتهك حقوق الإنسان، والقانون الدولي.
لحسن الحظ، أُسـقِـطَـت نصوص مشروع القانون الأكثر قبحا في النهاية قبل أن يصبح قانونا، وخاصة بسبب الاعتراضات الشديدة من قِـبَل الرئيس الأميركي المنتخب آنذاك جو بايدن. لكن الاحتجاجات التي استفزها التشريع لم تمنع جونسون من الاستمرار على ذات المسار. ففي مسودتها التشريعية لإلغاء قانون البرلمانات المحددة المدة، على سبيل المثال، أدرجت الحكومة مرة أخرى فقرة “إبعاد” المراجعة القضائية، زاعمة أمام المحاكم أن الدعوة إلى عقد الانتخابات مسألة تخص الساسة وليس القضاة.
الواقع أن استياء حكومة جونسون من التدقيق القضائي أمر مفهوم، نظرا لميلها إلى العودة ملطخة بالدماء ومغطاة بالكدمات من مواجهاتها مع المحاكم. ولكن في ديمقراطية ليبرالية، يتعين على الحكومة التي تخسر باستمرار في المحاكم أن تتوقف عن التصرف بشكل غير قانوني، لا أن تسعى إلى تجريد القضاء من سلطاته.
ولكن يبدو أن جونسون، مثله في ذلك كمثل ترامب، يبغض التصرف بشكل قانوني. كانت “المراجعة المستقلة للقانون الإداري” التي أطلقتها الحكومة، والتي من المقرر أن تصدر تقريرها هذا الأسبوع، مهتمة بشكل واضح بالكيفية التي قد تسمح للبرلمان بتقييد التدقيق القضائي. على نحو مماثل، تُـظـهِـر اختصاصات المراجعة المستقلة لقانون حقوق الإنسان حكومة مهووسة بما إذا كانت حقوق الإنسان تتعارض مع طموح السلطة التنفيذية.
يجدر بالمحكمة العليا في الولايات المتحدة ــ التي يميل قضاتها المحافظون إلى تبني “الالتزام بالقصد الأصلي” الذي توخاه المؤسسون ــ أن تتعلم من استعداد القضاء في المملكة المتحدة للإبداع والابتكار في مواجه السلطة التنفيذية ذات الميول الـمَـلَـكية. على وجه الخصوص، يعني استعداد المحكمة العليا في المملكة المتحدة للاعتراف بروح وغرض المبادئ الدستورية، مع استمرارها في ذات الوقت في تطبيق تفسير متماسك ومتسق للقانون، تعزيز قدرتها على الاستجابة للتحديات الجديدة.
كان انتهاك ترامب الصارخ للغرض الأصلي من العفو الرئاسي مجرد تحد آخر من التحديات العديدة التي فرضها على النظام السياسي الذي أنشأه دستور الولايات المتحدة. ويُـظهِـر جونسون سمات مقلقة بالمثل. وفي مواجهة مثل هذه التهديدات، ينبغي للمحاكم والهيئات التشريعية أن تتذكر غرضها الحقيقي: منع الممارسة الطليقة غير المقيدة للسلطة التنفيذية.