بقلم: د. حسن مدن – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – لم يكن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس نيكسون، حمامة سلام. كان من أشدّ الصقور تطرفاً، وإليه تنسب عبارة شهيرة قالها حين جُوبه موقف واشنطن من الحقوق القومية للأكراد بالنقد: «لسنا جمعية خيرية»، قاصداً أن ما يهم الولايات المتحدة هو مصالحها، لا حقوق هذه القومية، أو ذاك الشعب.
كيسنجر الذي يبلغ اليوم السابعة والتسعين من عمره عُرف، أيضاً، ببراجماتيته الشديدة التي تجلت، خاصة في فتحه صفحة علاقات جديدة بين واشنطن وبكين، حين قام بزيارة هذه الأخيرة في عام 1971، ممهداً لزيارة نيكسون. وكانت غاية الثعلب الماكر كيسنجر استمالة الصين، نكاية بالاتحاد السوفييتي يومها، مستغلاً الخلاف الأيديولوجي بين البلدين الذي كان في ذروته، رغم تشابه النظام الاجتماعي – السياسي في البلدين، أي النظام الاشتراكي.
كانت نظرة كيسنجر بعيدة المدى، وهو الذي أدرك، مبكراً، ما تتهيأ له الصين من دور دولي كبير هي أهل له، ومؤخراً فقط دعا كيسنجر إدارة الرئيس جو بايدن للتحرك بسرعة لاستعادة خطوط الاتصال مع الصين، التي انقطعت خلال سنوات حكم دونالد ترامب، لتفادي خطر أزمة قد تتصاعد إلى صراع عسكري، محذراً من الانزلاق نحو حرب عالمية، ما لم يجد البلدان طريقة للتعاون بينهما.
ومعلوم أن ترامب فعل نقيض ما فعله كيسنجر، ومن ساروا على خطاه تالياً، فقد اختار «مهادنة» موسكو، والتصعيد مع بكين، ولعله، في ذلك، كان يدرك استحالة خوض الصراع على جبهتين في الآن، ومعتقداً أنه بذلك يُحيّد موسكو في المواجهة الأمريكية الصينية.
اللافت أن إدارة بايدن لا تفعل هذا، ولا ذاك، لا ما فعله كيسنجر وما زال يدعو إليه، ولا ما فعلته إدارة ترامب، فبايدن، على ما يظهر حتى الآن على الأقل، يريد خوض المعركة على الجبهتين في الآن، فقد بدأ ولايته بتصعيد مع موسكو، غير مبرر من المنظور السياسي، فيما عبر عن «فخره» بأداء وزير خارجيته أنتوني بلينكن، في اللقاء الذي جمعه مع نظيره الصيني في ألاسكا، وهو أداء استعراضي ومستفز من وجهة نظر الكثير من المراقبين.
يقدّم بايدن، بهذا الأداء، هدية ثمينة لموسكو، للدفع في اتجاه اصطفاف صيني – روسي إزاء «الغطرسة» الأمريكية تجاه البلدين، ومن علاماته زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف للصين، وما أوضحته الخارجية الروسية من أن البلدين «يلتزمان بمواقف قريبة أو متطابقة من حل معظم المهمات العالمية، وهما مصممان على مواصلة التنسيق الوثيق لإجراءاتهما في السياسة الخارجية».