الرئيسية / مقالات رأي / مأساة الانهيار اللبناني

مأساة الانهيار اللبناني

بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”


الشرق اليوم – بسرعة ودراماتيكية، خسرت العملة الوطنية اللبنانية حوالي 90% من قيمتها، لكن الأمر تبعاً لمؤشرات عديدة، لم يكن مفاجئاً؛ بل يمكن القول بكثير من الجزم إنه كان انهياراً متوقعاً، فمنذ عام تقريباً ولبنان يشهد سلسلة من الأزمات والمعضلات، من بينها انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس / آب من العام الماضي، والذي لا تزال التحقيقات جارية حول الجهة أو الأشخاص المتورطين والمتسببين فيه، من دون أن يكون هناك أي أمل حقيقي في الكشف النهائي عن المسؤولين المحليين عن هذه الكارثة الوطنية والعمرانية والإنسانية، فطبيعة المؤسسات اللبنانية، وموازين القوى السياسية، يحولان دون تحقيق مساءلة حقيقية.
بعد أسبوع من انفجار مرفأ بيروت، قدّم رئيس الوزراء حسان دياب، استقالة حكومته، ولا يزال لبنان من دون حكومة، على الرغم من تكليف رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، لكن العقبات الداخلية المزمنة، والخلافات البينية التي وصلت إلى حالة من الاستعصاء، منعا الرئيس الحريري من تحقيق أي تقدم فعلي في تشكيل الحكومة، وتضاف إلى العاملين السابقين حالة الاستعصاء الإقليمي حول قضايا استراتيجية عديدة، تشمل لبنان، الخاضع بالضرورة، لمعادلات الخارج منذ الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف سبعينات القرن الماضي.
التحذيرات التي قُدمت للنخب السياسية اللبنانية كانت كثيرة، وفي مقدمتها تحذيريات الاقتصاديين والمحللين الماليين اللبنانيين، والتي تنبأت بأزمة تضخم مالي، خصوصاً بعد «عقوبات قيصر» على الحكومة السورية، حيث كان جزء كبير من عمل المصارف اللبنانية مرتبطاً برؤوس الأموال السورية، ولم يكن من الصعب توقّع تداعيات كبيرة على المصارف اللبنانية، وتأثير تلك التداعيات في عدد من القطاعات الاقتصادية والمعيشية، فتراجع سعر الصرف للعملة الوطنية أمام الدولار يعني بشكل مباشر زيادة في أسعار السلع الأساسية، في بلد يعتمد على الاستيراد من الخارج.
فرنسا والاتحاد الأوروبي، حاولا تجنيب لبنان الوصول إلى هذا المأزق، عبر تقديم خطة إنقاذ أوروبية، لكن هذه الخطة تتطلب من لبنان إحداث تغييرات كثيرة: سياسية واقتصادية ومالية وهيكلية، ويبدو أن لبنان بمحصلة أزماته، وعدم وجود قرار سياسي مركزي، عاجز فعلياً عن المضي في عمليات إصلاح جذرية، فهي من حيث المبدأ ستمّس مجمل بنية النظام اللبناني، وهو ما لا تقبله قوى سياسية رئيسية؛ لأنه باختصار شديد سيقلّص من نفوذها الحالي، كما أن قرار القبول بإجراءات من هذا القبيل ليس قراراً سيادياً محضاً لبعض القوى السياسية التي أصبحت تقوم بأدوار وظيفية إقليمية؛ بل هو يقع فعلياً خارج الحدود اللبنانية. فالقوى المدنية اللبنانية التي أسهمت في انتفاضة 17 أكتوبر / تشرين الأول 2019، وعلى الرغم من زخمها في الأسابيع الأولى، فإنها لم تتمكن من تأطير نفسها أو تشكيل قيادات وازنة يمكن أن تؤثر فعلياً في موازين القوى الطائفية.
فالنظام السياسي اللبناني المبني على صيغة «المحاصّة» الطائفية يمتلك إمكانات كبيرة في مواجهة الحراك المدني، مضافاً إلى ذلك مخاوف اللبنانيين أنفسهم من زيادة مساحة الانقسام الداخلي، التي قد تدفع نحو اقتتال حزبي أو مناطقي، قابل لأن يتطور إلى صيغة حرب أهلية يعلم اللبنانيون أن مقومات اشتعالها موجودة، إلا أن القرار الإقليمي والدولي يحول دون ذلك لغاية الآن.
منذ نهاية الحرب اللبنانية، عاش لبنان في حالة سلام مزيفة، فصيغة «اتفاق الطائف» التي اعتمدت لإنهاء الحرب، كانت هي ذاتها الصيغة التي أبقت كل مقومات الحرب المقبلة قائمة، وأبقت الاقتصاد اللبناني اقتصاداً ريعياً، ينخره فساد الطبقة السياسية التي كرّست المحسوبية نمطاً في إدارة الدولة والاقتصاد والشأن العام، ما منع فعلياً حدوث تحولات اقتصادية تسهم في بناء اقتصاد يقوم على أقل تقدير على الاكتفاء الذاتي، من خلال مشاريع إنتاجية استراتيجية تستهدف تأمين الأمن الغذائي واحتياجات المواطنين من السلع الأساسية، وتقلل الاعتماد على الاستيراد.
اقتصاد لبنان ما بعد الحرب، اعتمد فعلياً على أربعة موارد رئيسية، وهي الريع السياسي من الخارج، والقطاع المصرفي، وقطاع الخدمات، والاستدانة من البنك الدولي، ومنذ الربع الأول من العام الماضي توقف لبنان رسمياً عن تسديد ديونه لمجموعة البنك الدولي، وسبق ذلك انهيار تدريجي لقطاع الخدمات بفعل أزمات المنطقة، والقطاع المصرفي أصبح في حالة شلل، ولم يبقَ غير الريع السياسي الذي تحصل عليه بعض القوى السياسية، لكنه أعجز من أن يؤثر في حركة الاقتصاد الكلي، أو يمنع الانهيار السريع للعملة الوطنية.
مأساة الانهيار اللبناني لا تكمن في تداعياته الكارثية على مجمل لبنان واللبنانيين وحسب؛ بل في كونه كان متوقعاً ومحتوماً، وفي انفصال النخب السياسية عن واقعها، واستمرارها في تجاهل النتائج المؤكدة لسياساتها.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …