بقلم: علي حمادة – النهار العربي
الشرق اليوم- هذا هو السؤال الكبير الذي يتوقف عنده المراقبون الذين يرون كيف تناور إيران في ما يتعلق بمسألة العودة الى الاتفاق النووي الذي خرجت منه الولايات المتحدة سنة 2018 خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، ثم بدأت في التحلل من التزاماتها المنصوص عنها في الاتفاق النووي، وصولاً الى إطلاق مرحلة تصعيدية كبيرة في نهاية العام الماضي إثر اغتيال العالم النووي و”وأبي القنبلة النووية الإيرانية” كما يعرف عنه محسن فخري زاده الذي شكلت تصفية إسرائيل له في قلب العاصمة طهران ضربة قاسية للسلطة الإيرانية وللمشروع النووي ككل. تماماً كما شكل قتل قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني في مطلع السنة نفسها ضربة كبيرة وجهتها الولايات المتحدة للمشورع الإيراني التوسعي.
لكن وصول جو بايدن الى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أدى الى إحداث تغيير كبير في المقاربة الأمريكية للعلاقات مع إيران، واستطراداً لمسألة العودة الى الاتفاق النووي الإيراني الذي صرح الرئيس بايدن أكثر من مرة أنه ينوي إعادة الانخراط في الاتفاق النووي، بعد انتخابه.
وقد قامت الولايات المتحدة في مطلع ولاية الرئيس بايدن بجملة مبادرات انفتاحية على طهران، تمثلت في مرحلة أولى بتخفيف القيود على سفر الدبلوماسيين الإيرانيين الى نيويورك مقر الأمم المتحدة وتنقلاتهم، ثم بدأ بعض الدول إطلاق أرصدة عائدة لإيران كانت محتجزة بفعل العقوبات الأمريكية أيام ترامب، وذلك بموافقة البيت الأبيض الذي اعتبر أنه يقوم ببادرة حسن نوايا تجاه إيران.
أكثر من ذلك وافقت واشنطن على حضور اجتماع تدعو اليه الدول الأوروبية المنضوية في مجموعة 5+1 الموقعة على الاتفاق النووي سنة 2015، وتشارك فيه إيران لبحث مسألة إعادة تفعيل الاتفاق، وعودة الولايات المتحدة اليه، فضلاً عن تراجع إيران عن خروقاتها للالتزامات المنصوص عنها في الاتفاق والبروتوكولات الإضافية. لكن الخطوات الأمريكية هذه لم تكفِ لحث طهران على العودة عن الخروقات التي وبدل أن تبدأ في التراجع، شهدت تفاقماً كبيراً، لا سيما في ما يتعلق بإجراءات الرقابة التي تقوم بها “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، حيث علقت إيران إجراءات التفتيش المفاجئ للمنشآت المشتبه فيها في إيران. وعلقت لمدة ثلاثة أشهر حصول الوكالة على تسجيلات الفيديو العائدة لكاميرات المراقبة التي كانت الوكالة ثبتتها في العديد من المنشآت النووية الإيرانية وفقاً للاتفاق النووي ومحلقاته.
ولم تكتفِ إيران بهذا القدر من التصعيد لا بل إنها ذهبت بعيداً في تصعيد ميداني في العراق ضد القواعد العسكرية والمنشآت الدبلوماسية الأمريكية، وصولاً الى استهداف المملكة العربية السعودية بعشرات لا بل بمئات الصواريخ الباليستية والمسيّرات من اليمن وحتى من أراضي العراق وإيران نفسها، وذلك في محاولة لتحسين موقعها التفاوضي مع الأمريكيين، وتعطيل فكرة ربط رفع العقوبات الأمريكية بعودة إيران الى الالتزام بالاتفاق النووي، وفتح مفاوضات جدية مع الشركاء في الاتفاق ومعهم دول الجوار الإقليمي بشأن ملفي برنامج الصواريخ الباليستية التي تهدد دول ومدن المنطقة وصولاً الى أوروبا، والبحث في مسألة التمدد الإيراني في دول الإقليم ودعم الميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري” في كل من العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، فضلاً عن التدخل في قطاع غزة.
لم تسفر لعبة المناورات بين واشنطن وطهران في العودة السريعة الى طاولة المفاوضات حول رفع العقوبات والعودة الى الاتفاق النووي. فالإيرانيون وفي أكثر من مناسبة يشددون على رفع كامل للعقوبات كمقدمة للعودة الى الالتزام بقيود الاتفاق النووي. وفي موقفه الأخير يوم امس بهذا الشأن قال المرشد علي خامنئي: “لن نعود الى الاتفاق النووي إلا بعد رفع العقوبات”. وأضاف: “أن على الأمريكيين رفع كل العقوبات، وسوف نتحقق من ذلك، وفي حال إلغاء العقوبات، سنعود للوفاء بالتزاماتنا من دون أي مشكلة”. وختم قائلاً – وهنا الأهم ـ: “لدينا صبر طويل ولسنا في عجلة من أمرنا”!
ماذا يعني هذا الموقف؟ إنه رسالة واضحة تفيد بأن طهران التي تضررت كثيراً جراء العقوبات الأمريكية عليها، لن تستعجل العودة الى الاتفاق النووي، وهي تحاجج الموقف الأمريكي بالتمسك بموقف يشترط رفع العقوبات كمقدمة للعودة الى الاتفاق، فيما الأمريكيون يشترطون عودة إيران الى الالتزام بالاتفاق النووي تزامناً مع برنامج متدرج لرفع العقوبات الأمريكية.
وهنا تبرز مسألة بناء الثقة بين الطرفين التي يحاول الأوروبيون وفي مقدمهم الفرنسيون المتحمسون للعودة الى الاتفاق، وعودتهم الى الأسواق الإيرانية. لكن، يوماً بعد يوم، تظهر الوقائع أن الإيرانيين يتباطأون في الموضوع، ويؤخرون موعد العودة الى الاتفاق النووي، لا سيما أن الأنظار كلها تتوجه شطر الانتخابات الرئاسية القادمة التي تترافق مع انتخابات نيابية جزئية، حيث تدور معركة كبيرة بين أجنحة النظام لرسم معالم المرحلة المقبلة التي تتمظهر في اختيار الرئيس المقبل، وتعبيد الطريق لمن سيخلف المرشد المتقم في السن.
لكن على صعيد المعركة الرئاسية بدأت تتضح صورة التوجه الممكن للنظام، من حيث اختيار مرشح متشدد من “الحرس الثوري” مثل الجنرال سعيد محمد الذي استقال من منصبة كقائد مقر “خاتم الأنبياء” قبل بضعة أسابيع تمهيداً لخوض معركة الرئاسة بمباركة من المرشد. ومعروف أن مؤسسة “خاتم الأنبياء” هي الذراع الاقتصادية لـ”الحرس الثوري ” في إيران. ويمثل ترشيح سعيد محمد اذا ما تم قبوله توجهاً لدى المؤسسة العسكرية “الثورية” للنظام للتقدم وممارسة السلطة مباشرة، وليس عبر وجوه تسمى “إصلاحية” فيما هي عملياً واجهات للنظام تسمح بخوض حرب العلاقات العامة في الداخل والخارج.
انطلاقاً مما تقدم هناك تقديرات دبلوماسية أوروبية تشير الى أن الإيرانيين لا يستعجلون العودة الى الاتفاق النووي قبل الانتخابات الرئاسية، على قاعدة أن المرشد يريد التفاوض بعد حصول التغيير في الرئاسة، وتسلم المتشددين المقربين منه مباشرة كل السلطات مجتمعة. وعليه قد لا نشهد تحريكاً للملف قبل نهاية حزيران (يونيو) المقبل.