بقلم: إياد العنبر – الحرة
الشرق اليوم- لا يحتاج تشخيص الأزمات السياسية إلى كثير من التعمق والبحث والتحليل، فجميع الأسباب باتت واضحة وصريحة. لكن المشكلة الرئيسة كانت ولا تزال في حلول تلك الأزمات، ومدى قدرتها على أن تكون واقعية ويمكن الاستجابة لها، وأن تتوفر لها مقبولية تؤسس لإجماع سياسي بين الفرقاء.
ومنطقيا، أن تبدأ الحلول للأزمات السياسية من خلال الأفكار والمشاريع السياسية؛ ولكنها تبقى مجرد تصريحات وخطابات سياسية، إذا لم تتحول إلى واقع تنعكس أثاره على المجال السياسي العام، ويتم الاتفاق على ضمانات تطبقها على أرض الواقع.
في العراق يمكن تشخيص مفارقتَين تجهضان أي مشروع أو دعوة لحلّ مشكلة الانسداد السياسي؛ الأولى حالة قائمة حتّى الآن تعبّر عن إدراك سياسي مأزوم يسيطر على تفكير الطبقة السياسية، فهي لا تزال تفكر بالحلول من خلال منظار العيش في فترة انتقالية، ومن ثم تريد أن تطرح حلولا انتقالية من دون تجاوز تراكمات الفشل وسوء الإدارة التي أنتجتها المنظومة السياسية خلال فترة الانتقال هذه. وإن وجود هذه الطبقة السياسية هو جزء من المشكلة ولا يمكن أن يكون جزءا من الحل، ما دامت سلوكياتها السياسية لم تصل إلى مرحلة النضج السياسي.
أما المفارقة الثانية: يعتقد من هم في السلطة بأن حلول الأزمة السياسية التي تعصف بالنظام السياسي، تكون من خلال المبادرات السياسية. لكن واقع الحال أن هذه المبادرات لا تمثل إلا تلاعبا بالمفاهيم التي احتلت مكانة بارزة في الخطابات السياسية خلال السنوات الماضية. وبالعودة إلى ذاكرة الأحداث السياسية على مدى 18 سنة من تغيير النظام الدكتاتوري في العراق، نجد بأن كل المشاريع والدعوات إلى الإصلاح والمصالحة والحوار قد انتهى بها الحالُ إلى توافقات بين الطبقة السياسية، وظل المواطن يعاني الخراب وعجز النظام السياسي.
ويتخيل من يسمع دعوات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء للحوار الوطني بأن الخلافات السياسية يمكن أن تُحل بالحوار والجلوس إلى طاولة مشتركة تناقش الأزمات السياسية في العراق. لكن المشكلة الأكثر تعقيدا تكمن في أطراف الحوار السياسي! لأن الجهات الفاعلة والمؤثرة في المجال السياسي تتباين فيما بينها من حيث القوة والنفوذ، وقد تكون الحكومة والجهات التي يفترض بأنها تمثل مؤسسات الدولة هي الأضعف بين أقطاب القوى السياسية.
ومن ثم، يكون السؤال الأكثر تعقيدا: كيف يمكن أن تكون طبيعة الحوار مع مجموعات متناقضة في الأهداف والغايات؟ فالنظام السياسي في العراق يخضع لهيمنة زعامات سياسية تمثل أوليغارشيات تستحوذ وتهيمن على القرار السياسي، وجماعات تريد أن تفرض نفسها على المجتمع والدولة بقوة السلاح. والحكومة أتت نتيجة لتوافق سياسي بين إرادات هذه القوى المتعارض بالعلن والمتوافقة في الخفاء.
في المقابل هناك حراك احتجاجي يرفع لافتات ترفض ما تريد تحالفات تلك المنظومة أن تفرضه على الدولة. وبالنتيجة لا توجَد نقطة التقاء بين الأطراف المهيمنة على النظام السياسي، وبين الأطراف التي تريد تغيير معادلة السلطة من خلال إدخال صوت الجمهور الاحتجاجي كمتغير جديد في منظومة العمل السياسي.
أيضاً، كيف يمكن أن يكون الحوار بين أطراف سياسية لا تعرف منطق التنازلات والمساومات السياسية التي يكون هدفها مشاريع وطنية، فهذه الأطراف لا تعرف غير الجلوس على طاولة الحوار إلا أن يكون هدفه تقاسم مغانم السلطة. ورغم ذلك، الخلافات الشخصية والتغالب السياسي والسعي لتوسيع المكاسب هو من يحكم تفكيرها وسلوكها.
من جانب آخر، لا يمكن لأي (حوار وطني) أن يحقق غاياتَه من دون أن يكون هناك ضمانات. وهذه الضمانات يجب أن تكون على أكثر من مستوى:
المستوى الأول: قوة الدولة، إذ عندما تفتقد الدولة إلى بوصلة تحدد من هو معها ومن هو ضدها، ومن يريد أن يلعب دور سلطة موازية تسلب الحكومةَ وظائفها وقدرتها في احتكار العنف المنظم، لا يمكن أن توصف الدعوات إلى الحوار والمصالحة إلا نوعا من الثرثرة السياسية؛ لأن الدولة ومن يمثلها تكون فيها الحلقة الأضعف، ولا يمكن لِلضعيف أن يفرض شروطَه في حوار غير متكافئ الأطراف.
أما المستوى الثاني: استحصال الثقة، يحتاج إلى ضمانات حقيقة بأن الأحزاب والزعامات السياسية وجميع قوى السلطة باتت تدرك تماما بأن الحوار الوطني هو السبيل الوحيد لإخراج البلاد من مستنقع الفوضى والفساد وسوء الإدارة. ويمكن أن تكون الخطوة الأولى نحو استحصال الثقة هو الاعتراف بمسؤوليتها عن الأخطاء التي تسببت بالعنف والفساد.
والمستوى الثالث، يتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها الاتفاق على أن تكون مخرجات الحوار الوطني ممكنة التنفيذ من دون عرقلة التدخلات الخارجية، وأعتقد بأن هذا المستوى من الضمانات يُعد الأكثر تعقيدا في بلد لا يتم التوافق ولا تعقد الصفقات لحل مشاكله السياسية إلا برعاية دول الجوار الإقليمي والدولة الكبرى.
في الظروف الحالية التي يمر بها العراق، يمكن أن يكون تفسير الدعوة للحوار الوطني بأنها محاولة من قوى السلطة لممارسة لعبة التوازن بين ما يريده الجمهور الناقم والمحتج على تراكمات الفشل والفساد وسوء الإدارة. وايجاد جرعة أوكسجين لنظام السياسي يحتضر، وعاجز عن احتواء الصراعات التي تهدد وجود النظام نفسه. ومن ثم، الدعوة إلى الحوار الوطني تكشف عورة النظام السياسي القائم على أساس الصفقات السياسية بين الزعماء السياسيين، وتعبر عن اعتراف صريح في انعدام العلاقة المتوازنة بين المجتمع والمؤسسات السياسية