بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية
الشرق اليوم- بين آخر مرة التقيته فيها وبين هذا اللقاء فترة جاوزت العامين بقليل، لكن الشيب في رأسه والهم على وجهه جعلاني أشعر وكأن سنينا طويلة مرت بين اللقاءين، عرفته رجلاً متديناً منذ البداية، لكنني رأيته في هذه المرة شخصاً أكثر تديناً، كأنما صار أقرب إلى الزهد بعدما كان، حين عرفته، مشاركاً نشطاً في السياسة العراقية وواحداً من أصحاب السلطة والنفوذ فيها.
دارت بيننا في مطلع اللقاء التحيات المعتادة التي يحب العراقيون المبالغة فيها في بدايات استقبالاتهم، ثم تطرقنا إلى أحاديث شتى سريعة إلى أن سألته هل تؤيد الحشد الشعبي؟
أجابني: لو أنك سألتني هذا السؤال قبل عدة أعوام مضت يوم تأسس هذا الجيش على إثر فتوى السيستاني وكان يلقى زخما متصاعدا وتأثيرا كبيرا لكان جوابي دون أدنى شك: نعم. أما في أيامنا هذه وقد أصبح حالنا على ما نحن عليه الآن، وبعد ما تكشف الغطاء عن الأحداث التي تجري في العراق وعن التدخلات التي يقوم بها الحشد، لاسيما بعد انخراطه في التمييز والقتل الطائفي، وبعد انكشاف علاقته بجرائم الترويع والفساد، فأنا بالتأكيد لست مؤيدا له. عدت فسألته: هل الحشد الشعبي شبيه بداعش؟ فأجابني بثقة ومرارة في الآن ذاته: رغم اختلافهما المذهبي.. إلا أنهما وجهان لعملة واحدة.
سألته مجدّدا: هل ما زالت مظلومية الشيعة مستمرة في العراق كما كان الأمر منذ ثلاثين عاما مضت؟ وهل ما زالوا مهمشين ومنبوذين، ويُعامَلون كمواطني درجة ثانية أو كفئة أدنى؟ فأجابني ودون تردد: بل على العكس تماما.
قلت له: أعرف أنك مؤيد لحسن نصرالله ومعجب به.. أجبني رغم ذلك: إذا قرر حزب الله تسليم السلاح والتحول إلى حزب سياسي مدني فهل سيهدد هذا الشيعة في لبنان أو يثير هواجس الخوف لديهم من شركائهم في الوطن؟ فأجاب بالنفي أيضا. قلت: إذن ماذا لو سلّم الحشد سلاحه بالمقابل؟ هل ثمة خوف عند شيعة العراق من الاضطهاد؟ أجابني: أعتقد يا صديقي أن موضوع السنة والشيعة قد انتهى في العراق، فالشيعة يشاركون الآن في قيادة الدولة العراقية، وشبابهم اليوم مكوّن رئيسي من الشباب العراقي المنتفض في الشارع، يثورون إلى جانب إخوتهم السنة ويطالبون معهم بتحقيق العدالة للجميع.
استفزني مزاجه الرائق وترحابه بأسئلتي لأسأله المزيد، فقلت له: ما رأيك في سلوك إيران تجاه المنطقة العربية؟ أجاب بكلمة واحدة: إيران دولة مهمة وأخشى دائما تبسيط أي إجابة حولها، أود سماع ما لديك حول هذا السؤال. تابعنا الحديث وبدأت أشرح له حبي للثقافة الفارسية العميقة التي ساهمت في إغناء الحضارة العربية والإسلامية، حتى أن أغلب العلماء من أصول فارسية، فإيران الفارسية كانت تستخدم العقل والعلم ولديها إرث حضاري عريق بالمقارنة مع الأتراك الذين حكموا المنطقة العربية دون أن يكونوا أصحاب أي تأثير معرفي على الساحة الفكرية، بل كانوا يستخدمون القوة والبطش بدلاً من العقل والمعرفة.
أقولها بصراحة.. هل ساعدت ثورة الخميني التي ألبست أهدافها ومطامعها في السياسة والسلطة لبوس الإسلام الأمة الإسلامية على التقدم والتنمية؟ أم جرّت عليها المزيد من التخلف والفقر؟ ولو كانت إيران دولة معتدلة حقا وليس لها أطماع في المنطقة العربية ولا تحمل أيديولوجيتها العقائدية مشروع تصدير الثورة لكانت قد سلكت نهجا مغايرا لنهجها الذي تسلكه الآن.
وليس بخاف على أحد أن علاقات إيران كانت حسنة وقوية مع السعودية وسائر دول الخليج، بل وأغلب الدول العربية، قبل أن تتبنى أيديولوجيا نشر التشيع ودعم حراك الإسلام السياسي ومشاريعه الإقليمية، فهل تدرك إيران اليوم أن عصر الملل والنحل والتفرقة المذهبية قد ولّى؟ وأن العالم الحديث مقدم على ترك كل الخلافات الدينية والمذهبية وتنحيتها جانبا ليتفرغ للسباق العلمي والتنافس التكنولوجي الذي كلما زاد السبق في مضماره زاد الانفتاح على الجميع من كل الأعراق والأديان والطوائف والفرق؟
لم يقاطعني صديقي العراقي، بل حثني إصغاؤه على المضي أكثر في حديثي، وهذا ما فعلت، فعبرت له عن أسفي الشديد على طهران جارة العرب التي تسير عكس التيار، وقد أنفقت المليارات على إشاعة الفوضى وإذكاء النزاعات في المنطقة العربية منذ بدأت حربها على العراق الجائع والمحاصر، وزرعت ميليشياتها في كل من سوريا ولبنان واليمن، وألّبت عليها جاراتها شعوباً وحكومات، فاستعدت الجميع ضدها، وحرمت الإيرانيين من الاستقرار والنمو الاقتصادي الذي لو تحقق لجعلها عضواً فاعلاً في منظمة الدول العشرين العظمى بدل ما تعانيه اليوم من اقتصاد منهك وتهميش عالمي وعزلة دولية لا أفق واضحا لنهايتها.
إن الجزء الأكبر من خراب منطقتنا مرتبط بالدرجة الأولى بثورة الملالي التي أطلقت مشاريع التدمير منذ عام 1980، في العراق أولاً، ثم في لبنان وسوريا واليمن، ناهيك عن حالة الشك والحذر وفقدان الثقة التي زرعتها بينها وبين جيرانها دول الخليج العربي، ما أدى إلى وضع إستراتيجية التسلح الخليجية التي كلفت مئات المليارات من الدولارات من أجل التصدي للمطامع الإيرانية وردعها. ولقد بات من الواضح اليوم أن اتفاقيات السلام الأخيرة (اتفاقيات أبراهام) كانت إحدى الخيارات الإستراتيجية التي وحّدت العرب وإسرائيل للوقوف ضد مشاريع الملالي في المنطقة، فقد “نجحت” ثورتهم حقا في استعداء العرب واعتبارهم أن الإيرانيين يمثلون الخطر الأكبر، بعدما كانوا ينظرون إلى الفرس كجيران وإخوة في الدين والثقافة.
واليوم.. وبعد كل هذه الفوضى التي تثيرها طهران في المنطقة، هل حقاً هذا هو مشروعهم السياسي؟ وهل هم بالفعل دعاة للإسلام وللدفاع عن المسلمين؟ أم هم مجرد أداة أثمرت ثمار السوء لصالح خدمة كل المتربصين بالمنطقة العربية، والذين يريدون لها أن تبقى دائماً تعاني من النزاع والفوضى والتوتر المستمر؟
ثمة صورة مشوهة عن الإسلام في نظر الغرب. وللأسف كان لحركات الإسلام السياسي والجماعات الإسلامية والتنظيمات الإرهابية التابعة لها دور كبير في تكريس هذه الصورة السلبية عن الإسلام، ولكن الدور الأكبر في رسم هذه الصورة لعبته السياسات العدوانية لإيران التي تدعي أنها “إسلامية”، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تستقيم المقارنة بين تأثير مجرد جماعات وتنظيمات صغرى هنا وهناك، وبين تأثير دولة قوية توظف كل إمكاناتها في خدمة الأيديولوجيا الدينية المتطرفة، وتحاول اليوم أن تمضي أكثر فأكثر في سباق التسلح النووي، ضاربة بقوانين العالم المعاصر ومعاهداته وقيمه عُرض الحائط.
هل يدرك الشعب في إيران إلى أين تسير به قيادته؟ وهل تظن قيادة الملالي هذه أنها على صواب؟ وأنها حقاً تسلك سلوك الدولة الإسلامية وتلتزم شريعة الإسلام ونموذجه الأمثل؟ أم أن شعاراتها الإسلامية ليست سوى الوسيلة البراغماتية لأهداف سياسية لن تخدم الإسلام ولا المسلمين في شيء؟