بقلم: د. صبحي غندور – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – تميّزت حقبة الإدارة الأمريكية السابقة بتباينات عديدة في المواقف، بين ما كان يريده ويُصرّح به الرئيس السابق دونالد ترامب، وبين ما كانت عليه سياسات «البنتاغون» وأجهزة المخابرات.
وقد ظهر ذلك جلياً في سياسة ترامب تجاه كوريا الشمالية ومسألة الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان وسوريا، إضافةً طبعاً للخلاف بين ترامب وبين المؤسّسات الأمنية والعسكرية في تقييم دور روسيا بانتخابات عام 2016.
إدارة بايدن الحالية هي بحالٍ معاكس لما كان عليه ترامب في العلاقة مع مؤسّسات الدولة الأمريكية المعنية بالسياسة الخارجية، والتي تشمل أيضاً وزارة الخارجية، بل يمكن القول إن الإدارة الحالية هي إدارة هذه المؤسّسات، فما ستضعه من استراتيجيات هي التي سيسير عليها «البيت الأبيض».
ولعلّ ما أشارت إليه صحيفة «واشنطن بوست» يوم 13 مارس الحالي من إمكانية تأجيل موعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان لمدّة سنة، لمثال على ما سبق ذكره. فإدارة ترامب السابقة كانت تضغط على «البنتاغون» لتحقيق الانسحاب من أفغانستان قبل السنة الانتخابية في العام الماضي، ووصل الأمر إلى حدّ دعوة ترامب لقادة «طالبان» للمجيء لكامب ديفيد من أجل توقيع الاتفاق معها، لكن ذلك لم يحصل بسبب ضغوط كبيرة من الكونغرس والمؤسّسات الأمنية والعسكرية، وجرى الاستعاضة عن ذلك بتوقيع اتّفاقٍ في الدوحة منذ سنةٍ تقريباً، تضمّن جدولاً زمنياً لانسحاب قوات «الناتو» ابتداءً من شهر مايو في هذا العام، وهو ما لن يتمّ الآن تنفيذه.
فوزارة الدفاع الأمريكية لا تجد أن الظروف الأمنية والسياسية الحالية في أفغانستان تسمح بانسحاب قوات «الناتو»، حيث ما زالت «طالبان» تقوم بعمليات عسكرية وتفجيرات في أماكن مختلفة، ولا تقبل عملياً بالشراكة في السلطة مع الحكومة الحالية، ويتّهم «البنتاغون» حركة «طالبان» بأنّها ما زالت تتعاون مع جماعات «القاعدة». لكن ربّما يكون السبب الحقيقي لسعي «البنتاغون» لتأجيل الانسحاب هو عدم تكرار تجربة الانسحاب الأمريكي من فيتنام في حقبة السبعينيات، حيث انتهى الأمر هناك بعد خروج الأمريكيين بسيطرة الشيوعيين على عموم فيتنام.
وقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤخراً وكالة أنباء «باجهوك» الأفغانية عن سيطرة «حركة طالبان» على 52% من البلاد، مشيرةً إلى أن 59% من السكّان يعيشون في مناطق سيطرة الحركة. وأظهر الاستطلاع الذي جرى بين 30 نوفمبر 2020 و3 فبراير 2021، أنّ الحكومة تسيطر على 46% فقط من الأراضي الأفغانية، وأن الـ2% المتبقية تخضع لسيطرة أطراف أخرى. وأشار الاستطلاع إلى أن المناطق الواقعة تحت سيطرة «طالبان» تبلغ مساحتها 337 ألف كيلومتر مربّع، في حين تبلغ مساحة المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة 297 ألف كيلومتر مربّع.
لقد كان الاتّفاق الذي وقّعته إدارة ترامب السابقة مع «طالبان» مفصلاً مهمّاً في سياق الحرب الأمريكية في أفغانستان، والتي بدأت قبل 20 سنة، وهي أطول حرب تخوضها الولايات المتّحدة في تاريخها. فما تضمّنه الاتّفاق يعني قبولاً أمريكياً بتسليم السلطة مستقبلاً لحركة «طالبان» وبسحب «قوّات الناتو» من أفغانستان خلال 18 شهراً، مقابل تعهّد «طالبان» بعدم السماح لأنشطة «القاعدة» و«داعش»، وأيضاً للمسلّحين الانفصاليين البلوش، الناشطين في جنوب غرب أفغانستان، من استخدام هذه المنطقة كمنطلق لهم في عملياتهم ضدّ باكستان المجاورة.
ولوحظ في المفاوضات السابقة، عدم مشاركة حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني، الذي عبّر مرّات عدة في السابق عن امتعاضه من الموقف الأمريكي، ومن عدم مشاركته في المفاوضات، ولغياب التنسيق مع حكومته، خاصّةً أنّ «طالبان» لا تعترف حتّى الآن بكل الوضع الدستوري والسياسي الذي جرى في أفغانستان بعد الغزو الأمريكي.
لقد فشلت الولايات المتحدة في إنهاء حركة «طالبان» بعد إسقاط حكمها في نهاية عام 2001، ولم تنجح المراهنة الأمريكية على إقامة «حكم بديل» يستقطب الأفغانيين ويعزل الحركة، رغم كل المحاولات والخسائر البشرية والمالية في حرب أفغانستان على مدار عقدين من الزمن. وكانت مبرّرات واشنطن في السنوات الأولى للحرب هي القضاء على حركة «طالبان» التي كانت تدعم بن لادن و«القاعدة»، ووفّرت لهما ملاذًا آمنًا قبل سبتمبر 2001، لكن ما هو مهمٌّ للاستراتيجية الأمريكية الآن يرتبط بأهمّية الموقع الجغرافي لأفغانستان وجوارها لإيران ولباكستان الدولة النووية، ولجمهوريات من الاتحاد السوفييتي السابق، ولما فيها أيضاً من ثرواتٍ طبيعية.
إنّ تداعيات حرب أفغانستان جعلتها تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأمريكية على فيتنام في القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتّحدة، وانتهت بمفاوضاتٍ في باريس، أدّت إلى الانسحاب الأمريكي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربونها من ثوّار فيتنام الشمالية «الفيتكونغ»، وإلى التخلّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.
وحرب أفغانستان هي الحرب الثانية، بعد العراق، التي «تخسرها» الولايات المتحدة في هذا القرن الجديد، لكن دون أن يؤثّر ذلك على القوّة العسكرية الأمريكية المنتشرة في العالم، وعلى تفوّقها النوعي والكمّي على أيِّ دولةٍ أخرى. فما زالت الميزانية العسكرية الأمريكية هي الأضخم بنسب كبيرة مقارنةً مع ميزانيات الدفاع لدى القوى الكبرى الأخرى. فالميزانية العسكرية الأمريكية هي حوالي 10 أضعاف الميزانية الروسية، وحوالي أربعة أضعاف الميزانية الصينية. ولم تكن خسارة أمريكا في فيتنام مبرّراً لخفض الإنفاق الأمريكي على المؤسّسة العسكرية أو سبباً لانسحاب أمريكا من الأزمات العالمية أو لعدم خوض حروبٍ جديدة. ومن هنا يمكن فهم تأجيل الانسحاب من أفغانستان وتعزيز الانتشار العسكري الأمريكي في آسيا.
فصحيحٌ أنّ الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت في الماضي. وصحيحٌ أيضاً أنّ هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم. وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في قارّات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية. لكن هل تتصرّف أمريكا الآن على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم، أو هل سلّمت واشنطن، في الحدّ الأدنى، بهذه المتغيّرات الدولية الجارية حالياً؟ لا يبدو ذلك حتّى الآن!