بقلم: وليد فارس – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- في الأسابيع الأولى لعهد إدارة بايدن، توضّح كثير من الأمور وتقدّم كثير من الملفات، وبرز كثير من المحاور في السياسة الخارجية الأميركية عامة، وتجاه الشرق الأوسط الكبير بشكل خاص. وشملت هذه التطورات السريعة مواقف الإدارة من الملفات الكبرى في المنطقة، ومواقف قوى المنطقة من الملفات ذاتها، ومن الولايات المتحدة أيضاً.
وسردنا في مقالات سابقة سياسة الإدارة الجديدة من هذه المواضيع، لا سيما الاتفاق النووي، وكذلك ما تسعى طهران إلى أن تنجزه على مراحل. السؤال يبقى في ضوء ذلك: كيف يتطور الموقف العربي من سياسة بايدن العلنية والعملية من ناحية، وتجاه إيران من ناحية أخرى؟
التموقع العربي في 2021 في بداية عهد بايدن، يظهر من واشنطن أنه مرّ بمرحلتين سريعتين. الأولى تجسّدت بتبادل المواقف المبدئية بين أعضاء التحالف العربي، لا سيما السعودية ومصر، وإدارة بايدن حول “التعاون الثنائي مع واشنطن” بغض النظر عَمّن في البيت الأبيض.
ومرّت الأسابيع الأولى والتأكيدات تتوالى بين الطرفين أن لا شيء سيؤثر في العلاقات الدائمة بين الولايات المتحدة والدول العربية الحليفة، أياً كان السبب. ورددت أصوات الخبراء من واشنطن، وبعضهم في المنطقة، أنه لا داعي للقلق.
لكن قيادات المنطقة كانت عليمة بأن الإدارة الجديدة فيها تأثيرات من طواقم عملت مع إدارة إوباما، وبمقدار ما جرى تثبيت تعيينات أفراد ينتمون إلى هذه الطواقم، باتت سياسات إدارة بايدن تتوضح أكثر فأكثر تجاه المنطقة.
أجندات الإدارة تتوضح
مسؤولو الإدارة بدأوا فترتهم الأولى بتطمينات شديدة وعلنية، أن الإدارة “ستبني فوق ما أنجز في السنوات الأربع الماضية”، لا أن تهدم تلك المبادرات لتبني غيرها في اتجاهات نقيضة. وقد فهم البعض أن ذلك يعني أمرين على الأقل.
الأول، أن واشنطن لن تعود بسرعة ومن دون شروط إلى الاتفاق النووي مع إيران. وبحسب هذا البعض أن ذلك يعني أن إدارة بايدن “لن تقدّم” تنازلات لطهران على حساب شركائها العرب قبل أن “يُدرس الموضوع سوية مع العرب”.
أما التطمين الثاني، فكان لإسرائيل وشركائها العرب في “معاهدة إبراهيم”، وفحواه أن إدارة بايدن ستدعم توسيع المعاهدة من ناحية، ولن تربط هذا التوسيع بالاتفاق النووي. إلا أن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر. فالمواقف العلنية للإدارة في أسابيعها الأولى، لم تكشف عن الصورة الأوسع التي رسمها فريق بايدن للسياسة الخارجية حيال المنطقة.
ما تبّين إذاً أن الإدارة ستطبّق سياسة الإمساك بكل الأوراق معاً، لتقرر ما تريده هي بالنسبة إلى كل المحاور والملفات. هذا هو سر سياسة فريق بايدن الحالية. إدارة أوباما ركزت على ما كانت تريده هي، أي الاتفاق النووي، وشكل من أشكال الشراكة مع الإخوان. وأرادت فرض السياسات الأخرى بناء على “السياستين الأساسيتين”، مما أدى إلى بعض الجفاء مع عدد من الحكومات (الخليج)، ورفض للبعض الآخر (مصر).
إدارة ترمب انتفضت على سابقتها
منذ 2017، قلبت إدارة ترمب المقاييس رأساً على عقب في المواقف الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وغيّرت بوصلة السياستين المتعلقتين بإيران والدول الشريكة في المنطقة. فكما كتبنا في السابق، خرج ترمب من الاتفاق النووي ووقف وراء حلفائه العرب في مواجهتهم إيران، أكان في الخليج أو في اليمن، ووضع خطوطاً حمراء في العراق وسوريا.
لكن الأهم من ذلك أنه أطلق الدعم الأميركي للتحالف العربي والإسلامي في قمة الرياض في 2017، وطلب باسم أميركا من “الحلفاء” أن “يُخرجوا الإرهابيين من أراضيهم”، أكانوا “داعش” و”القاعدة” أو “حزب الله” أو الميليشيات الإيرانية.
من ناحية ثانية، أعطت إدارة ترمب الضوء الأخضر للدول العربية التي أرادت توقيع “معاهدة إبراهيم” مع إسرائيل أن تنطلق بحرية، من دون أن تشترط أي رابط بالاتفاق النووي.
لكن إدارة ترمب استخفت باللوبي الإيراني، وخسرت وقتاً ثميناً في الشرق الأوسط، فلم تساعد التحالف العربي على حسم الموضوع مع الحوثيين، ولم تساعد العراقيين السياديين على حسم الموضوع في العراق، ولم تساعد اللبنانيين الأحرار على أن يتحرروا ولو جزئياً من “حزب الله”، ووقفت تتفرج على الميليشيات التكفيرية والإسلاماوية في ليبيا أربع سنوات. ترمب ساعد العرب، لكن إدارته لم تساعده إطلاقاً على حسم الملفات.
بايدن أمام الواقع
بعد رئاستي أوباما وترمب، يجد بايدن نفسه بين حدّين في ما يتعلق بالشرق الأوسط. دول المنطقة ما عدا المحور الإيراني، تعرف تماماً أن العودة إلى الاتفاق ستضعف مواقفها، وتؤثر سلباً في مصالحها. والرئيس بايدن يعرف أن شركاء أميركا العرب وإسرائيل قلقون جداً من هذا الموضوع. إيران تعرف أن بايدن يدرك دقة الموقف، وتضغط على إدارته لتدفعها إلى العودة السريعة وفك الطوق عنها. وقد تكون التحركات العسكرية والإرهابية في هذا الإطار.
من هنا، فإدارة بايدن تعمل على كل الجبهات لعدم إضاعة المبادرة: إرضاء إيران وإعطاؤها شيئاً ما كي لا يفرط الاتفاق. إرضاء إسرائيل كي لا يغضب مؤيدوها داخل الولايات المتحدة. والمحافظة على التواصل مع السعودية وحلفائها العرب، كي لا يبتعدوا عن الولايات المتحدة.
التموقع العربي الجديد
في إطار المرحلة الجديدة من سياسة إدارة بايدن تجاه المنطقة، يبدو أن منظومة التحالف العربي باتت تتموقع في معادلة متجددة تحاكي التموقع الأميركي الجديد.
أولاً، تردّ السعودية وحلفاؤها أن العرب أيضاً متمسكون بالعلاقة الثنائية مع واشنطن بقدر ما هي متمسكة بها.
ثانياً، تقبل المملكة والتحالف بمبدأ الحل السياسي في اليمن، وفي الوقت ذاته تستمر بعملياتها على الأرض، رداً على إرهاب الحوثيين، ما دام قائماً.
ثالثاً، يقبل التحالف العربي بمبدأ طاولة مفاوضات شرق أوسطية للأمن والاستقرار بديلاً عن الاتفاق النووي لعام 2015، لكن يستمر بالتصدي لأعمال طهران التخريبية في المنطقة، بما فيها استهداف السعودية والمواقع الأميركية.
رابعاً، تستمر دول “معاهدة إبراهيم” بالتوسع في عملية السلام وتعميق التبادل الاقتصادي، لكن بشكل مستقل عن الاتفاق النووي.
أخيراً وليس آخراً، تحتفظ دول التحالف بحقها في تنمية دفاعاتها الإقليمية والدولية ضد الإرهاب، عبر مناورات وتدريبات مع دول أعضاء في “ناتو”، مثل اليونان وفرنسا في المتوسط، إضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا في الخليج.
التموقع العربي الجديد، ذكي استراتيجياً، ودقيق في أدائه. فكأنه رسالة متعددة تقول: نبقى حلفاءً استراتيجيين للولايات المتحدة، لكننا ندافع عن أنفسنا ضد إيران والمنظمات الإرهابية. نقبل بمنظومة الأمن والسلام في المنطقة، لكن يجب على إيران أن تتخلى عن تهديدها للمنطقة.