بقلم: حسام ميرو – الخليج
الشرق اليوم- منحت العولمة عبر آلياتها الداخلية والخارجية، ومنها الآليات الإعلامية والإعلانية، الديمقراطية زخماً كبيراً وواسعاً على مستوى العالم. كان ذلك خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثالثة، ولم يكن التنظير حول الليبرالية بوصفها خاتمة التاريخ خارج هذا الإطار، وتعد أطروحة الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» المقدمة النظرية الأكثر شهرة وترويجاً لوضع الليبرالية كحد نهائي على التاريخ المعاصر؛ حيث اعتبر فوكوياما، أن الليبرالية هي المآل الحتمي للدولة الحديثة، معتمداً على المعطيات الكبرى التي قدمها درس سقوط الاتحاد السوفييتي، بوصفه التعبير الأكثر تمثيلاً للشمولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أطروحة فوكوياما ومنظري الليبرالية الجدد، أو ما أطلق عليهم اسم «المحافظون الجدد»، تعطي الديمقراطية أهمية كبرى في رأس أجندة السياسات؛ بل أن بعض تنظيرات هذا التيار ترى أنه من الممكن «إحلال الديمقراطية والسلام عبر الحروب، أو التدخل العسكري»، وقد مثّلت تجربة العراق النموذج الأكثر شهرة ومأساوية لهذا الشعار نظرياً وعملياً، فقد أتى الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 تحت شعارات ليبرالية، في مقدمتها إرساء نظام حكم ديمقراطي، تمخض من حيث الواقع والنتيجة عن ولادة نظام حكم «ديمقراطي طائفي»، حوّل العراق إلى دولة فاشلة بحسب كل المعايير.
في السجال حول مفهوم الديمقراطية، لا يزال التعريف القائل بأن الديمقراطية هي «حكم الشعب» حاضراً كأساس تاريخي ومعياري في بناء المفهوم وسياقات تصريفاته السياسية، ولئن كان مفهوماً، من الناحيتين التاريخية والنظرية، أن تستمر إحالة الديمقراطية على المصدر العمومي للشرعية، أي الشعب، إلا أن عمومية مفهوم الشعب تجعل تلك الإحالة عليه من قبيل التعمية على التمايزات الموجودة بين فئاته، خصوصاً من حيث الممكنات المتوفرة تاريخياً واقتصادياً واجتماعياً لكل فئة، وبالتالي فإن تعريف الديمقراطية بوصفها «حكم الشعب» قياساً للتباينات الموجودة في المجتمع، خصوصاً في المجتمع الرأسمالي، هو تعريف أيديولوجي، فالديمقراطية من حيث البنى والمؤسسات القائمة في المجتمعات الغربية/ الليبرالية هي شكل من أشكال إدارة المصالح بين الفئات/ النخب الأكثر نفوذاً، والتي تستحوذ فعلياً على أكبر قدر من الثروات والمؤسسات والأدوات والتأثير في الرأي العام.
خريطة العالم الديمقراطي نفسه، تظهر تمايزات كبيرة بين أنظمة الحكم الموجودة في دوله، خصوصاً من حيث درجة فاعلية الديمقراطية في تنظيم عمليات التنافس بين النخب، أو من حيث انعكاس الديمقراطية إيجاباً على الصالح العام، وبالتالي فإن ما يسمى العالم الديمقراطي هو تسمية بالغة العمومية لعدد من الدول وأنظمة الحكم التي يعمل نظامها السياسي بقاعدتي التعددية السياسية وحق الاقتراع، من دون أن يعني بالضرورة أن نتائج تلك التعددية أو نتائج الانتخابات، وما تفرزه من حكومات، هو بالضرورة في مصلحة الشعب، أو يمثل مصالح كل فئاته.
الحقوق الأساسية التي تتبناها الليبرالية، المتمثلة بحق الحياة، وحق التملك، وحق التعبير، مكفولة في جميع الأنظمة الديمقراطية، لكنها أيضاً خاضعة لآليات المجتمع الرأسمالي، ما يجعلها في الكثير من الأحيان مجرد حقوق دستورية منزوعة الدسم، أي أنها خالية من أي تطبيق عملي؛ حيث إنها في الواقع هي حقوق متحققة بقوة الواقع لفئة محددة من المواطنين، بحكم احتكار الثروة والنفوذ، من دون أن يكون للفئات الأخرى أي قدرة على تأمين أبسط مقومات تلك الحقوق.
وفي سياق نقد الديمقراطية، فإن المنهجية تضعنا أمام أخذ مسألة التباين بالنوع أو الدرجة في القيام بعملية المقارنة بين النماذج؛ إذ لا يمكن تقديم نقد موحد لتجربتين ديمقراطيتين، أحدهما ذات طابع إمبراطوري، كما في حال الولايات المتحدة، وأخرى ذات طابع رأسمالي ضعيف كما في اليونان والبرتغال والبرازيل، كما أن نقد الديمقراطية الغربية يجب ألا يفهم منه انتفاء الحاجة إليها كنظام حكم ضروري للخروج من حالة الفوات التاريخي التي تعيشها الدول الاستبدادية؛ حيث تصبح الديمقراطية مدخلاً تقدمياً ليس للحكم وحسب، وإنما لإعادة تعريف البنى الاجتماعية، والخروج من الانتماءات والهويات الفرعية، لمصلحة انتماءات أكثر حداثة.
الحاجة إلى المعيار أو المعيارية كتطور منهجي في القياس هي مسألة ضرورية بشكل عام في نقد أنظمة الحكم، وتصبح أكثر أهمية في حالة الديمقراطية؛ حيث إن نقداً معيارياً يرتكز على أسس محددة مسبقاً كفيل بأن يتيح لنا الإجابة عن ممكنات التحوّل الديمقراطي، أو مدى استجابة الديمقراطية كنظام، وعلاقة الديمقراطية بمفاهيم من مثل المواطنة المتساوية، والتوزيع العادل للثروة، والحوكمة، والجندرة، وتكافؤ الفرص، وغيرها من المفاهيم التي نمت أساساً في سياق تطور الليبرالية والديمقراطية.