بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- زيارة البابا فرنسيس العراق يجب أن تدفع النخب الحاكمة وصنّاع القرار إلى مزيد من التفكير في العيش المشترك وتقبّل الآخر، خصوصاً بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، فالروابط التي تجمعهم قوية وقديمة، لاسيما أن بناء السلام بات ضرورة حيوية في المنطقة.
«فلتصمت الأسلحة… ولنضع حداً لانتشارها، هنا وفي كل مكان، ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام». بهذه الكلمات استهل البابا فرنسيس أول زيارة يقوم بها “حبر أعظم” للعراق، وذلك في 5 آذار (مارس) الحالي.
تحمل هذه الزيارة التاريخية معاني كبيرة بالنسبة الى مسيحيي العراق الذين تعرضوا أخيراً للاضطهاد والتغييب والتهجير، وهم قديمون قدم المسيحية ذاتها. ويعلم البابا أن الكنيسة العراقية أقدم من الفاتيكان ومن الكنيسة الكاثوليكية نفسها. والمسيحيون في شرقنا هم “صمّام الأمان، وهمزة الوصل بين الأديان الأخرى من جهة، وبين الشرق والغرب من جهة ثانية، بفضل علاقاتهم المعتدلة مع الأطراف كلهم”، كما قلت سابقاً (في مقال “ملح الأرض… المكون المسيحي في الحضارة العربية- الإسلامية”، النهار العربي، 26 تشرين الاول/أكتوبر 2020) وما زلت أقول.
جاءت هذه الزيارة لتؤكد رسوخ المسيحية في الشرق العربي، وتشدّد على أن العيش المشترك والتسامح وتقبّل الآخر، هي الخيار الوحيد القادر على إنقاذ المشرق وصون تاريخه وثقافته، وحماية أهله من التهديدات والأخطار التي يتعرضون لها يومياً، في سورية والعراق ولبنان وغيرها. قوى تسعى إلى تفكيك هذه البلدان أو حتى تدميرها، سواء أكانت احتلالاً أم فساداً أم طائفية أم ميليشيات مسلحة مدعومة من الخارج.
وقوبلت زيارة البابا فرنسيس بالترحيب من الأطراف كافة، بما في ذلك إيران الغاضبة ضمناً لأن الحبر الأعظم التقى المرجع الديني الأعلى في النجف، علي السيستاني، الذي يمثل عقبة كبرى أمام احتكارها تمثيل المسلمين الشيعة في العالم، إذ لم تستطع رسمياً إلا أن تعتبر الزيارة “جيدة وبنّاءة”.
والحق أن الخطوات التي يقوم بها القادة الدينيون المعتدلون، تستدعي مزيداً من التأمل للبناء عليها، فإذا أفسدت السياسة الدين يوماً، فإن عظمة الإيمان ورقيّ الأديان السماوية من شأنهما أن يلعبا دوراً معاكساً فيُصلحا حال السياسة. كما يفتح التقارب الروحي الباب أمام التقارب الثقافي والحضاري والسياسي، لنبذ العنف والتطرف والدفع الحثيث نحو تحقيق السلام والاستقرار. فالصراع بين الشرق المسلم والغرب المسيحي مفتعل، وقد ناقشت ذلك في مقال آخر (في مراجعة كتاب “الكُفَّار- تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام” لأندرو هويتكروفت، إيلاف، 26 أيار/مايو 2021)، موضحاً أن السياسة هي التي أفسدت العلاقة بين الأديان والأوطان عندما استغلت الأولى للسيطرة على الثانية. وتمثل زيارة البابا الأخيرة خطوة على طريق إعادة اللحمة بين هذين العالمين الروحيين اللذيَن، حتى ولو فرقتهما السياسة، فإن ” الأخوة الإنسانية” ستبقى كالرباط الذي يشدهما بعضاً إلى بعض.
وتجدر الإشارة إلى توقف البابا في مدينة “أور” الأثرية في الناصرية في محافظة ذي قار، التي جاء ذكرها في العهد القديم (التوراة) باسم “أور الكلدانية” باعتبارها مسقط رأس سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي رفض فكرة تعدد الآلهة، وتبنى رسالة التوحيد والسلام، فحملت الديانات السماوية الثلاث اسمه.
واتخاذ الحبر الأعظم من أور محطة له أدى إلى تسليط الضوء على دورها الكبير في التاريخ الحضاري والروحاني للمنطقة وللعالم كله. أما قوله «نحن أحفاد إبراهيم ولا يمكن لأحدنا العمل بمعزل عن الآخر، ولقاء الأديان للتوحيد والإيمان بدأ من هنا، وإبراهيم بدأ من أور وأصبح أباً لجميع الأديان»، فيُعد دعوة صريحة لجميع أتباع الديانات السماوية، إلى التقارب والتلاقي والبناء على تاريخ واحد خيّر ومشترك، لإعادة السلام إلى مهد الحضارة والأديان السماوية.
وأرى أن وجود أور بهذا الشكل البارز على أجندة البابا والدعوة التي وجهها منها، يضفيان على زيارته العراق أهمية استراتيجية، لاسيما أن حبر معاهدة السلام الإبراهيمية بين دول عربية عدة وإسرائيل لم يجف بعد، وهي الخطوة التي سارعت دول وجهات، بينها بعض مكونات العراق الأساسية، إلى رفضها.
حلول “الضيف المسيحي” في العراق وضع بلاد ما بين الرافدين في صدارة الأخبار، التي لطالما وصلت إليها في العقدين الأخيرين لكن لأسباب مختلفة. فوسائل الإعلام العالمية اهتمت بالعراق هذه المرة لأنه بات عنواناً للسلام والتسامح بين الأديان، ولم يعد ميداناً للقتال والعمليات الإرهابية والمهجّرين والضحايا والدماء. وجلّ ما أتمناه أن تؤدي الزيارة الى مزيد من الهدوء في العراق الحبيب، وأن تصب في مصلحة أمنه وازدهاره، وتدفع المعنيين، محليين وعالميين، إلى مد يد العون للمساعدة على صون إرثه العريق، لاسيما أن “أور” نفسها لم تحظ بالعناية اللازمة لترميم ما دمرته الحرب منها.
أما المنطقة الأخرى اللافتة التي خصّها الحبر الأعظم ببعض الوقت خلال زيارته الحافلة، فكانت محافظة نينوى، مهد مسيحيي العراق، الذي احتله تنظيم “داعش” وعاث فيه خراباً وأعمل تقتيلاً وتشريداً بأهله. وكان لتوقف الضيف الكبير فيها دلالة مهمة تتمثل في أن الزعامة المسيحية العالمية ستدعم على الدوام أهل هذه المنطقة وتحرص على نيلهم حقوقهم فيها. وبدورها وجهت صلاه البابا في أربيل، للعرب والعالم رسالة مفادها أن الأكراد أمة عظيمة في نظرنا، ومكون رئيس وأصيل في المنطقة.
ختاماً…على السياسيين المخلصين ترجمة الزخم الذي أحدثته الزيارة إلى خطوات ملموسة على الأرض بغية السعي إلى حل مشكلات العراق الرئيسة المعروفة، بدءاً بالقضاء على فلول “داعش” وغيره من التنظيمات الإرهابية، ووضع حد للتدخل الإيراني المستمر بالشأن الداخلي، ومعالجة قضية الميليشيات التابعة لطهران معالجة ناجعة. وإذا حصل هذا، فلن تقف ثمار زيارة البابا فرنسيس عند حدود تغيير الواقع المر للمسيحيين فحسب، بل والمسلمين أيضاً، سنة وشيعة، وعلى امتداد “الجغرافيا الإبراهيمية” كلها. وأرجو من الله أن تسير إيران أيضاً على الطريق نفسه، فيقتدي كبار رجال الدين فيها بدعوات السلام ونشر المحبة والتآخي، وأن يتحول النظام الحالي في طهران بقيادة المرشد الأعلى عن أهدافه السياسية والعسكرية، ويتبنى برنامجاً مدنياً وإنسانياً، وأن يكف عن التدخل في شؤون الجيران، ويوجه الجهود لبناء الداخل وتطويره بما يضمن مصلحة الشعب الإيراني ورفاهه. و ما ضَرّ لو سعى الإيرانيون سعياً صادقاً لاستعادة علاقاتهم الحسنة مع جيرانهم العرب الذين ينظرون دائماً للعرق الفارسي نظرة احترام ومحبة، ويعلمون أنه مميز وعظيم، أنجب علماء وأدباء وفلاسفة غيّروا في عهود سابقة وجه العالم؟