بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم- الرئيس جوزف بايدن هو الرئيس الاميركي الرابع الذي يبدأ ولايته وهو يحدق بمعضلة مكلفة لم يستطع أي من اسلافه الثلاثة الخروج منها: أفغانستان. بعد عشرين سنة من غزو إحدى أفقر دول العالم وأكثرها مقاومة للتغيير، وبعد انفاق 2000 مليار دولار، ومقتل اكثر من 2300 عسكري أميركي وجرح أكثر من 20 الفاً، لا تزال الولايات المتحدة تبحث عن السلام المفقود. ووفقاً لتقرير صدر عن الامم المتحدة في السنة الماضية وصل عدد الضحايا المدنيين الافغان الى مئة الف بين قتيل وجريح. والحقيقة التي يعرفها جميع صنّاع القرار الاميركيين الذين خدموا في ادارات الرؤساء جورج بوش الابن (الذي ارتكب الخطيئة الاميركية الاصلية حين غزا افغانستان دون أي تصور مسبق لكيفية الخرود منها) وباراك اوباما ودونالد ترامب، والان بايدن، هي انه لا يوجد هناك حل عسكري للنزاع في افغانستان. جميع الادارات السابقة استنزفت جهوداً كبيرة في نقاش عقيم تمحور حول زيادة أو تقليص عديد القوات الأميركية وتلك التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو). الأميركيون توقفوا منذ سنوات عن الحديث العبثي عن عملية بناء الدولة في افغانستان.
المسؤولون الاميركيون، من سابقين وحاليين يدركون أيضاً أن القوة الاميركية –العسكرية والاقتصادية – غير قادرة لوحدها على فرض حل في افغانستان تقبله كل من الحكومة الحليفة في كابول، وحركة طالبان. وهناك عامل آخر، يدركه المسؤولون في واشنطن، وهو ان أي حل لديه فرصة بالنجاح، يجب ان يحظى إما بتأييد جدي من قبل جيران افغانستان الاقوياء :الصين، والهند، وروسيا وباكستان وايران، او على الاقل بقبولهم الضمني. تعاون هذه الدول او معظمها غير مضمون لدعم أي اتفاق يمكن ان تتوصل اليه الاطراف المتنازعة في افغانستان.
في شباط ( فبراير ) 2020، توصلت الولايات المتحدة وحركة طالبان بعد مفاوضات استمرت لثمانية عشرة شهراً في الدوحة، قطر الى ما سمي “اتفاق احلال السلام في افغانستان”، الذي يفترض ان يرسم خريطة طريق الى اتفاق سلام يشمل جميع اطراف النزاع في افغانستان. أتفاق الدوحة يقضي بسحب جميع القوات الاميركية من افغانستان خلال 14 شهراً، ( أي مع حلول شهر مايو المقبل) وأن تفرج الحكومة الافغانية عن حوالي 5 آلاف أسير من مقاتلي طالبان، مقابل إفراج طالبان عن ألف عسكري أفغاني. ويقضي الاتفاق ان تبدأ الحكومة الافغانية وحركة طالبان بمفاوضات ثنائية بهدف تحديد الدور الذي ستلعبه حركة طالبان في مستقبل افغانستان في سياق اتفاق سلام نهائي. خلال هذه الفترة، وفي حال تقدم المفاوضات تبدأ الولايات المتحدة بالغاء العقوبات التي فرضتها على حركة طالبان.
ولكن المفاوضات بين الحكومة الافغانية وحركة طالبان تعثرت، وبدأ مقاتلو الحركة بتوسيع رقعة عملياتهم العسكرية والسيطرة على المزيد من الاراضي من القوات الحكومية، وهناك توقعات بان تقوم طالبان بحملة عسكرية واسعة ضد المدن التي تسيطر عليها الحكومة الافغانية مع حلول فصل الربيع، ما يهدد فرص الحل السلمي. وخلال ولاية الرئيس السابق ترامب انخفض عديد القوات الاميركية في أفغانستان الى 2500 عنصر فقط، وانخفض عديد جميع قوات حلف الناتو الى 8 الاف عنصر. ولكن لا أحد يتوقع انسحاب القوات الاميركية مع حلول شهر أيار (مايو) وفقا لاتفاق شباط (فبراير) 2020.
الوضع الميداني في أفغانستان، وتعثر المفاوضات بين الطرفين الأفغانيين المتنازعين، أعاد إلى السطح السؤال الملح من جديد: كيف يمكننا الخروج من افغانستان؟
وقبل أسبوع، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن المبعوث الأميركي لأفغانستان، زالماي خليل زاد اقترح عقد مؤتمر افغاني موسع يضم الحكومة الافغانية وقادة طالبان لبحث امكانية تشكيل حكومة مؤقتة، وذلك في اعتراف ضمني، بأن خريطة الطريق التي طرحها اتفاق الدوحة في 2020 لم تؤد الى أي مكان. ولكن البيت الابيض سارع الى صب الماء البارد على الخبر، والقول إن المبعوث خليل زاد في محادثاته مع الاطراف المتنازعة، لم يطرح أي مقترحات رسمية وانه يناقش مع الاطراف المعنية “جميع الخيارات المتوفرة، المتعلقة بقواتنا، ونعني جميع الخيارات” وفقا لبيان البيت الابيض. من جهته قال الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس “ان مفاوضات السلام الافغانية تتوقف على الافغان انفسهم، ونحن نؤمن أن نتائج هذه المفاوضات يجب ان تعكس رغبات وتطلعات الشعب الافغاني”. جاءت هذه المواقف على خلفية تأكيدات رسمية من أن واشنطن لا تعتزم سحب قواتها من أفغانستان مع حلول شهر أيار، وفقا لتفاهم شباط 2020.
المسؤولون في واشنطن يقولون إن الرئيس بايدن لا يزال يراجع خياراته في أفغانستان، ولكن هذه المراجعة تجري على خلفية تدهور الوضع الميداني في افغانستان، وعلى خلفية تهديد حركة طالبان بانها سوف تستأنف هجماتها ضد القوات الاميركية اذا لم يبدأ بايدن بسحب هذه القوات من البلاد وفقا لاتفاق 2020. وزير الدفاع لويد أوستن وجد نفسه يناشد الافغان لضبط النفس قائلا ” أحض جميع الاطراف على اختيار طريق السلام. يجب تخفيض العنف فوراً”، في اشارة الى ازدياد اعمال العنف من قبل طالبان. واضاف أوستن: “لقد قلت لحلفائنا (الناتو) انه بغض النظر عن نتائج المراجعة التي نقوم بها، فان الولايات المتحدة لن تقوم بأي انسحاب سريع أو غير منضبط من افغانستان”. وتابع: ” لن تكون هناك أي مفاجآت، وسوف نتشاور مع بعضنا البعض وسوف نقرر ونتحرك مع بعضنا البعض”.
في كانون الأول (ديسمبر) 2019 نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تحقيقاً مطولاً مبنياً على أكثر من 2000 وثيقة اميركية رسمية حول الحرب في أفغانستان، كشفت فيه ان المسؤولين الاميركيين في مختلف الحكومات التي أشرفت على الحرب، قد ضللوا الشعب الاميركي حين كانوا يصدرون البيانات التي تتحدث عن تحقيق التقدم في الحرب، ورسم صورة وردية للوضع في افغانستان، بينما الواقع الميداني يقول العكس، وكيف أخفوا الادلة التي تقول إن الانتصار في الحرب لم يعد ممكنا. الوثائق شملت مقابلات صريحة لمسؤولين عسكريين ومدنيين. ولعل ما قاله الجنرال دوغلاس لوت المسؤول في البيت الابيض عن الحرب في افغانستان خلال ولايتي الرئيسين جورج بوش الابن وباراك اوباما يعبر أبلغ تعبير عن مأزق الولايات المتحدة: “لم يكن لدينا أي فهم عميق لأفغانستان. لم نكن نعرف ما كنا نفعله”. عندما لم يحقق الرئيس الاسبق جورج بوش الابن انتصاراً سريعاً في أفغانستان بعد غزوها في 2001، أصبح من المستحيل لأي من الرؤساء الذين خلفوه تحقيق مثل هذا الانتصار.
الرئيس الاسبق، باراك اوباما لجأ أولاً الى زيادة كبيرة في عديد القوات الاميركية في أفغانستان،( 98 ألف عسكري، وهو أعلى رقم منذ بداية الغزو) قبل أن يعدل رأيه ويعمل على تخفيضها. الرئيس السابق دونالد ترامب، قام بتخفيضها الى 2500 عنصر، بأمل سحبها جميعها مع حلول أيار (مايو )2021. بايدن لا يملك خيار زيادة عديد القوات الاميركية في افغانستان، كما ان خيار الحفاظ على الوضع الراهن يعني المزيد من الانفاق المالي ( حوالي 10 مليارات دولار في السنة) اضافة الى الخسائر البشرية التي يمكن ان ترتفع، اذا شنّ مقاتلو طالبان حملة عسكرية واسعة في الربيع كما يهددون. كل هذا يعني ان الخيار الوحيد امام بايدن، وهو الملم بتحديات هذه الحرب، هو شراء بعض الوقت لتأجيل أي حملة عسكرية للطالبان، ومحاولة التعجيل بوتيرة المفاوضات بين الحكومة في كابول والطالبان، لكي يبدأ بعملية الانسحاب النهائي من أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، ودون أن ينظر الى الوراء . الانتصار الاميركي ممنوع في افغانستان، وانتصار حركة طالبان في المستقبل مرجح جداً، ان لم نقل حتميا.
وسوف يبقى هناك سؤال ملّح ومؤلم ليناقشه المؤرخون لوقت طويل: ما الذي حققته الولايات المتحدة في افغانستان بعد حرب استمرت لعشرين سنة، وكبدتها خسائر بشرية كبيرة بين قتلى وجرحى، والفي مليار دولار؟