بقلم: محمد خليفة – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – شُغلت الصحف في أنحاء متفرقة من العالم بأخبار كتاب العالم الفرنسي “رفائيل ليوجييه” عالم الاجتماع وأستاذ الفلسفة، الذي يرى أن العالم لن يشهد ما يسمى بـ”صدمة أو حرب الحضارات” كما زعم هنتيجنتون، لسبب واحد فقط؛ يكمن في أن العالم ليس به سوى حضارة واحدة، وليس عدة حضارات، بل ذهب العالم والمفكر ليوجييه إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث دعا إلى حتمية وسرعة إزالة الحدود بين الدول؛ لأن العالم يمثل في النهاية حضارة واحدة، ولاسيما في ظل تقدم علم تكنولوجيا المعلومات الذي قرب المسافات وتجاوز الحدود، ويستبعد فكرة صدام أو حرب الحضارات، وهذا ما يؤكده، حسب رؤيته، المشهد الجديد الذي يحياه المواطن الطبيعي في جميع بقاع الأرض.
وحول البعد الإيديولوجي والديني، يرى أن هذا الصراع ليس صراعاً بين أديان مختلفة، ولكنه يعود في الأساس إلى صراعات بين تيارات مختلفة تنتهج العنف، ويشير إلى أن الإشكاليات لم تكن يوماً تتعلق بطبيعة الدين؛ ولكنها في التيارات العنيفة المتطرفة التي تفسر ذلك الدين، فهل تسود هذه النظرية؛ حتى يسترد العالم أنفاسه، وتوصد أبواب الصراعات المفتوحة على مصراعيها، ويستعيد حدوده الآمنة في أعقاب بواعث القلق والتوتر، وتستجيب الأمم لنداء الإنسانية لاستئناف حياة تسودها روح التعايش والتسامح، وكل ما يبشر به المستقبل من حياة وادعة مطمئنة، في ظل المأمول من تكاتف الأنظمة الدولية والتقائها على اختلافها عند هدف واحد هو ملتقى التعايش السلمي الذي ينبغي أن يكون مطلباً مشتركاً ينشده الجميع، بعد أن عانى العالم شرقه وغربه تراكم العلل بسبب الهزال الذي ساد العلاقات بين الدول، وما اتسمت به المؤسسات الدولية المسؤولة عن نشر الأمن من تمييع للمواقف، وإضاعة الحق، ودفن الحقيقة، وتشتيت الرأي وتلوين الأشياء بغير طبيعتها.
اتسم الفعل السياسي العالمي في بعض مراحله المعاصرة بصدمات بسبب غياب المنهج التحليلي الاستقرائي لمجريات وتفاعلات الحركات السياسية في العالم؛ فقد ثبت بعد مطالعات تاريخية وتأملات عميقة في مجريات الطبيعة والحياة كلها، تجاهل المثل الأخلاقية العليا والمفاهيم الإنسانية السامية وكل ما يساعد على الحياة والنماء والقوة والخير من القيم الروحية التي خلق الإنسان من أجل تجسيدها، لأجل نشر الخير والجمال على الأرض، ولذلك فاختلاف الثقافة الإنسانية لا ينبغي أن يُنظر إليها إلا من زاوية أنها تنوع يصب في صالح الإنسانية الواحدة، وهنا يكمن مفهوم القانونية الكلية للقواعد الأخلاقية إلى مفهوم الغائية والتعاون والتفاهم، وهو وحده الذي يمكن تصوره على أنه أعلى مشرع للجماعة الأخلاقية لكل الواجبات الحقيقية للبشرية كافة، إذ أن رب البشر خلق الإنسان بنوازعه الفطرية للإيمان الإخلاقي والاستعداد الأصيل للخير، والأساس الذاتي لإدراك أن رعاية القانون الأخلاقي هو الدافع في جميع القواعد الأخلاقية لكافة البشر بمختلف معتقداتهم وقيمهم. وبذلك ينتج هذا التكوين الأخلاقي للإنسان بإصلاح العقلية وتأسيس خُلقيّ في واقع ثقافته، وتراث أمته، بالأفعال التدريجية بغية أن تتجسد في فكره المثل العليا للكمال الأخلاقي للإنسانية، بحيث تهيمن على مسارات العموم والأخذ بما سطره التاريخ الإنساني الإبداعي.
وتدرك الدول الواعية أن الإنسان هو محور الحياة، بحيث يمكن معرفة أهداف ومطالب الإنسان الحياتية لكل إنسان، وبناء إطار أخلاقي للعلاقات الدولية، وذلك داخل الإطار الإيديولوجي والسياسي بحيث يخرج عالماً جديداً إلى حيز الوجود، وتتجاوز البشرية مرحلة اللاوعي بالتاريخ إلى مرحلة ذات منظور عالمي لا يرى في السياسة نشاطاً ينطلق من أنانية فردية أو طبقية أو قومية، بل نشاطاً ينطلق من فعل سياسي يتسامى وينمو فوق المصالح الذاتية، ويهدف إلى تعزيز الإنسانية في الإنسان، وتتوافق تصورات العالم في كافة المجالات بالزمان والمكان.
إن البشر في كافة بقاع الأرض- وهذا حقهم الإنساني- يتطلعون إلى عالم موحد، وغير منقسم إلى عوالم طبقية، فلا تسود رحابه هيمنة أو تبعية ولا تتوزعه التحالفات الإقليمية والقارية، ليصبح عالماً مترابطاً بالقيم، وتتعاون كافة الشعوب على البر والعمل لتدفع بموكب الإنسانية نحو ذلك العالم المنشود.