بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم- في الاجتماع الأخير لمجلس وزراء الخارجية العرب، دان المجتمعون تدخل تركيا في شؤون الدول العربية، وفي هذا إجماع الدول الأعضاء على النظرة إلى سلوك تركيا في المنطقة. في الاجتماع نفسه أعاد المجلس تكرار بيانات الجامعة وقممها في استنكار استمرار إيران في احتلال جزر الإمارات الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وفي هذا إجماع عربي على دعم الموقف الإماراتي، وعجز عن الخروج بإجماع حول ما بات يعرف بـ “السلوك المزعزع للاستقرار” في المنطقة الذي تمارسه طهران منذ قيام جمهوريتها الإسلامية.
ولئن يفرج العرب عن موقف صلب ضد سياسات تركيا في المنطقة، فإن موقفهم من إيران يشوبه تصدع وغياب لوحدة بإمكانها توجيه رسالة رادعة، ليس إلى طهران فقط، بل إلى العواصم الدولية التي تلهث للاهتداء إلى المخارج والسبل لتدبير اتفاقات جديدة مع إيران.
والحال أن موقف العرب كان شبه موحد في دعم العراق في حربه ضد إيران (1980-1988)، ذلك أن جمهورية الخميني أطلقت تهديدات علنية، ثبت صدقها لاحقاً، لكل دول المنطقة. وفيما عدا مواقف بعض البلدان، لا سيما سوريا بقيادة حافظ الأسد، فإن إيران لم تجد لدى العرب حليفاً أو نصيراً يتفهم منطق تصدير الثورة. ولئن انهار “نصر العرب” في هذه الحرب بعد كارثة احتلال الجيش العراقي في عهد صدام حسين للكويت (1990)، فإن اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة (2001) جاءت لتقدم هدايا مجانية لطهران.
انقلبت المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة على العرب جميعاً. راجت لدى العقل السياسي الأميركي عقائد تعتبر السنّة أعداء طبيعيين بنيويين أنتجوا الإرهاب الذي ضرب أميركا، وأن للإرهاب السنّي عناويين كثيرة ومدارس لا تنتهي. في المقابل اعتبرت لعقائد نفسها أن الإرهاب الشيعي الذي ضرب ثكنة المارينز في لبنان أو فجر قنابل في شوارع باريس أو خطف غربيين في بيروت … إلخ، هو إرهاب ظرفي عرضي، وله عنوان واحد في إيران يمكن ضبطه والتفاهم مع مرجعيته. ووفق ذلك تطوعت واشنطن لإزالة عدوين استراتيجيين لإيران، نظام “طالبان” في أفغانستان شرقاً ونظام صدام حسين في العراق غرباً.
كان من شأن التخلص من نظام صدام حسين في العراق أن يحوّل العراق إلى حليف للدول المتضررة مباشرة من احتلال جيشه للكويت وتهديد الأمن الاستراتيجي لبلدان مجلس التعاون الخليجي. لم يحصل ذلك. لم يكن سقوط بغداد (2003) صدفة أحسنت إيران استغلالها لتعظيم نفوذها في العراق، بل إن الأمر خطة أميركية مقصودة تستند الى مسوغ أيديولوجي في التقاطع مع الخصم “الظرفي” والقطع مع الخصم “البنيوي”. فلم يكن النفوذ الإيراني ما بعد صدام حسين في عهد بول برايمر مرحباً به فحسب، بل كان ممنوعاً أن يتعرض لأي منافسة من دول الجوار.
تواكب قرار حل الجيش العراقي ومؤسسات الدولة في العراق – تحت عنوان اجتثاث “البعث” – مع قرار بفك لحمة العراق (أو ما كان يعرف بالبوابة الشرقية) عن محيطه العربي. هيمنت واشنطن على قرار العراق ورسمت ملامح مصيره المقبل. ووفق قرار أميركي مشحون بتداعيات 11 أيلول (سبتمبر)، كان ممنوعاً على البيئة العربية استعادة العراق ومدّ جذور التواصل مع بغداد. على ذلك وقف الخليجيون والعرب يراقبون تمدد إيران العراقي وانحسار الحضور العربي داخل هذا البلد.
لم يكن العرب غافلين عما تخطط له إيران. عام 2004 تحدث العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني عن “الهلال الشيعي”. لكن أمر التوجس من إيران بقي شأناً يتم التعامل معه بالمفرق ولم يرقَ إلى مستوى يتفق فيه العرب على موقف واحد. ولئن تباهت إيران لاحقاً بالسيطرة على أربع عواصم عربية، إلا أن ذلك قوبل بوجهات نظر مختلفة داخل النظام السياسي العربي. وإذا ما كانت تحفظات بغداد وبيروت في اتخاذ مواقف معادية لطهران مفهومة، بحكم أنها من العواصم التي تحسبها إيران ضمن نفوذها، إلا أن هذا التحفظ انسحب على دول أخرى في المنطقة ليس بالضرورة حرصاً على إيران بل صون لحسابات وأولويات.
تعاملت إيران مع كل المنطقة العربية بصفتها حدائق كامنة لفلاحتها وزرعها. تمدد سعي التشيّع صوب الجزائر وتونس والمغرب ومصر والسودان قبل أن تنتفض عواصم تلك الدول وتوقف ذلك التمدد وتطرد دبلوماسيين لإيران وتقفل “مراكز ثقافية” تتبعها. تباهت طهران بخلاياها في الكويت وتدخلها في شؤون الشيعة في السعودية والبحرين وأرسلت عبر زعيم “حزب الله” في لبنان رسائل تهديد إلى الإمارات، ناهيك بحراك عسكرها المباشر وغير المباشر في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تنظر طهران إلى العرب كمادة وقود لمشروعها، فيما لا يجمع العرب على توصيف واحد لذلك المشروع.
لم يأتِ الاستغناء عن مشاركة العرب في صوغ الاتفاق النووي مع إيران من فراغ. استندت واشنطن في عهد باراك أوباما الى هذا المشهد العربي المشتت حيال إيران، والذي ساهمت واشنطن قبل ذلك في صناعته وصيانته، وفرضت والمجتمع الدولي الممثل بمجموعة (5+1) اتفاق فيينا الشهير عام 2015.
لم يُخرج دونالد ترامب بلاده من الاتفاق كرمى لعين التحفظ العربي، ولا يبدو أن جو بايدن الذاهب إلى الإيفاء بوعده الانتخابي بالعودة إليه يأخذ كثيراً بعين الاعتبار هواجس المنطقة. وإذا لم يتطور موقف العرب في صوغ موقف حازم حاسم موحد ضد الحالة الإيرانية في المنطقة، على الأقل بالمستوى الذي يُعبر عنه ضد تركيا، فإن بايدن لن يملك في أي اتفاق مقبل مع إيران إلا وضع المنطقة أمام أمر واقع شبيه بذلك الذي فرضه أوباما بُعيد اتفاقه مع طهران. ولعل ما صدر من مواقف للإدارة الجديدة في واشنطن من “ضبط” للعلاقة مع الحلفاء وتفهم وصبر مع إيران، يعطي فكرة مقلقة عما تعده واشنطن للمنطقة.