بقلم: رفيق خوري – اندبندنت العربية
الشرق اليوم- أمريكا تدفع ثمن مغامراتها العسكرية في الخارج، وثمن مجازفاتها السياسية في الداخل. ولا فرق في النتائج بين ما سمّاهما الرئيس باراك أوباما “الحرب الجيّدة” في أفغانستان و”الحرب السيئة” في العراق. الزلزال الذي أحدثته “غزوة نيويورك” على يد “القاعدة” دفع الرئيس جورج بوش الابن إلى إعلان “الحرب الكونية” على الإرهاب وإسقاط طالبان وضرب “القاعدة” وحذف عدو لإيران. والارتباك الحاصل والشعور بالعار والتأييد الدولي، رأى فيها المحافظون الجدد فرصة لتغيير العالم، فكان غزو العراق وإسقاط الدولة وحل الجيش بما قاد إلى تنامي الإرهاب وفتح اليمن والهلال الخصيب أمام النفوذ الإيراني وتسليح الميليشيات.
جيل كيبل، وهو من أبرز الخبراء الفرنسيين في شؤون الإسلام السياسي والإرهاب، قال إن “الشرق الأوسط هو، في إطار ما، جزء منا، وما هو تحديات خارجية بالنسبة إلى أميركا صار قضية داخلية بالنسبة إلى أوروبا”. لكن أمريكا بدأت تواجه “الإرهاب الداخلي” من دون أن تقضي الحرب على الإرهاب الخارجي. فهي من جهة، في حرب باردة جديدة مع الصين وروسيا وحرب حامية ضد الإرهاب، ومن جهة أخرى في “حرب باردة جديدة بين الأمريكيين المستقطبين” على حد التعبير الذي استخدمه ديفيد بلايت، أستاذ التاريخ في جامعة ييل.
والمعادلات خطيرة: غزو العراق أدى إلى ظهور “داعش” وقيام “الخلافة الإسلامية” قبل تدميرها و”الانسحاب الأمريكي يساعد في تقوية داعش والقاعدة”، حسب تقرير “معهد دراسات الحرب” في واشنطن. والمجازفات السياسية في انتخاب بوش الابن ثم أوباما ثم دونالد ترامب رؤساء قادت إلى تقوية التيارات المتشددة المتعصبة في أمريكا.
ذلك أن ما سببته مغامرات بوش الابن قادت إلى انتخاب أوباما. والعنصرية البيضاء الرافضة وجود رئيس أسود في البيت الأبيض وجدت أرضاً خصبة لها أدت إلى المزيد منها، بالتالي إلى انتخاب ترامب. و”كارثة ترامب ليست بشكل أساسي في الدمار الظاهر الذي أحدثته بل في الدمار غير الظاهر: إتلاف الثقة الاجتماعية وتدمير الثقة في المؤسسات”، كما رأى بريت ستيفانز في “نيويورك تايمز”.
أما البروفسور مايكل ساندل في جامعة هارفارد، فإنه سأل: “لماذا يؤيد كثير من الشعب العامل بلوتوقراطياً شعبوياً لم تساعدهم سياسته؟”، والجواب هو “الإذلال الذي شعر به الشعب العامل، لأن الاقتصاد تركه وراءه والنخبة تنظر إليه من فوق”.
ترامب لم يصنع التيارات المتعصبة، بل عمل على توظيفها والتلاعب بها ودعمها. رفض إدانة العنصرية والميليشيات المؤمنة بتفوق العرق الأبيض حتى بعد الموجة التي أثارها مقتل الإفريقي- الأمريكي جورج فلويد خنقاً بركبة شرطي أبيض. رفض الاعتراف بفوز جو بايدن بالرئاسة مع أنه نال 85 مليون صوت، ودعا أعضاء الكونغرس الجمهوريين وحكام الولايات إلى تغيير النتائج، وحين رد القضاء وعلى رأسه المحكمة العليا كل دعاويه حرّض الغوغاء على “غزوة الكونغرس” التي لا مثيل لها في تاريخ أمريكا الحديث على أيدي ميليشيات “الأولاد الفخورين” و”كيوآنون” وسواهما.
إذ قال مدير مكتب التحقيق الفيدرالي كريستوفر راي أمام اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ: “الاعتداء على الكابيتول ليس حادثاً عرضياً بل نابع من إرهاب داخلي لن يختفي في أي وقت قريب. والذين قاموا به ليسوا فقط من ميليشيات التفوق العرقي والمؤمنين بنظرية المؤامرة، بل أيضاً أشخاص غير منظمين، لكنهم يصدقون أن ترمب ربح الانتخابات، وأن الدولة العميقة سرقتها منه”.
وفي الأسبوع الماضي جرى إلغاء جلسة في مجلس النواب خوفاً من هجوم جماعة “كيوآنون” على الكابيتول، التي تعتقد أن الثالث من مارس (آذار) هو اليوم المفترض لتنصيب ترامب لولاية ثانية، وهو اليوم الذي كان يجري فيه تنصيب الرؤساء حتى عام 1933، حيث صار في 20 يناير (كانون الثاني). فهذه الجماعة تؤمن بأن ترامب “سينقذ أمريكا والعالم من النخب الفاسدة والاستغلال الجنسي للأطفال”.
ومحاربة الإرهاب الداخلي أصعب من الحرب على الإرهاب الخارجي. الحرب على داعش والقاعدة وكل منظمات الإرهاب في العراق وسوريا واليمن والصومال وليبيا ونيجيريا وسواها نجحت جزئياً ولا تزال مستمرة. والفشل فيها ليس فقط فشلاً أمريكياً، بل هو أيضاً فشل للأنظمة والمجتمعات.
والحرب على الإرهاب الداخلي تتطلب كثيراً من الجهد والصبر وإعادة تثقيف المجتمع، وسحب الذرائع من جماعة التفوق العنصري، ومعالجة التهميش الحاصل في الأرياف والظلم اللاحق بالطبقة العاملة البيضاء جراء نقل المعامل إلى العالم الثالث حيث الأيدي العاملة رخيصة والأرباح أكبر للشركات العملاقة. لكن المحنة واحدة بالنسبة إلى أمريكا والعالم: إرهاب داخلي وخارجي.