بقلم: د. منار الشوربجي – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – أحداث متلاحقة ومهمة تعيد للأذهان قسوة المعاناة التي عاشها الأمريكيون الأصليون على مدار تاريخهم ومقاومتهم المستمرة للقهر والتمييز.
والسكان الأصليون، لا «الهنود الحمر»، هو التعبير الذي تفضله كاتبة السطور، لأن لفظ «الحمر» له دلالات تحمل مرارات تاريخية لهم.
ورغم أن سكان أمريكا الأصليين لا يمانعون من استخدام تعبير «الهنود»، إلا أنه يحدث لبساً باللغة العربية لا يحدثه استخدامه بالإنجليزية في السياق الأمريكي. فأبناء دولة الهند الذين صاروا أمريكيين لا يشار إليهم بـ«الهنود» وإنما يشار لهم «بالأمريكيين من أصل هندي»، ما يجعل لفظ «الهنود» بالإنجليزية يخص الأمريكيين الأصليين وحدهم.
أما وقائع مقاومة الأمريكيين الأصليين التي تواترت مؤخراً، فقد فجرها الحدث نفسه الذي أشعل المقاومة بين السود والأمريكيين من أصول لاتينية منذ العام الماضي، فواقعة مقتل جورج فلويد على يد رجال الشرطة البيض، كانت آخر حلقة في سلسلة طويلة من أحداث مماثلة. فصار مقتله الشرارة التي شكلت الحركة الاجتماعية المطالبة بالعدل لكل الأعراق والإثنيات التي عانت طويلاً من التمييز والقهر.
وقد تزامن وقتها مع المطالبة بإزاحة تماثيل الرموز التاريخية التي دافعت عن استمرار العبودية، مطالب الأمريكيين الأصليين بتغيير الأسماء والرموز التي تحملها مؤسسات عدة، وتمثل إهانة لهم ولتراثهم الثقافي.
ولعل أحد تلك المسميات التي طالما طالب الأمريكيون الأصليون بتغييرها كان اسم فريق واشنطن لكرة القدم الذي كان يحمل اسم «ريد سكينز»، أي الجلد الأحمر، وكان شعاره وجه شخص من الأمريكيين الأصليين يعتلي رأسه الريش.
فالاسم ذو دلالة تاريخية مريرة. ففي الحقبة الطويلة التي تعرض فيها الأمريكيون الأصليون للمذابح، كانت هناك جوائز مادية للبيض لقتلهم، بشرط أن يأتوا بالجمجمة، وكان البيض يطلقون على الجثث الدامية التي يقطعون منها الجماجم «الجلد الأحمر». وقد ازدادت الضغوط حتى اضطر النادي أخيراً للقبول بتغيير اسمه وشعاره.
وفي الشهور الأخيرة، تراجع نادٍ رياضي آخر كان اسمه «هنود كليفلاند»، شعاره هو الآخر وجه يعتلي رأسه الريش، وغيّر اسمه وشعاره. ورغم الاستهزاء به واعتباره رمزاً للتخلف، فإن الريش في ثقافة الأمريكيين الأصليين له دلالات تتعلق بالتبجيل والاحترام. فارتداؤه شرف لصاحبه لا يتحقق بسهولة، ويعني أنه من أصحاب المقام الرفيع ممن يتسمون بالرفعة الأخلاقية.
وفي سياق وقائع المقاومة، فإن قبيلة «شيروكي»، التي قضى الكثير من أبنائها نحبهم حين تم «إزاحتهم» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر نحو الغرب، فيما صار يعرف بـ«طريق الدموع»، تطالب اليوم شركة «جيب» الأمريكية لصناعة السيارات بتغيير اسم سيارتها الشهيرة التي تحمل اسم القبيلة.
ورغم أن المطالبة بتغيير المسميات والشعارات مستمرة منذ عقود، إلا أن تراكمها أكسبها قوة، خصوصاً في سياق الحركة الاجتماعية التي تشكلت عقب مقتل فلويد.
لكن لعل الحدث الأكثر أهمية، كان ترشيح بايدن للنائبة ديب هالاند لمنصب وزيرة الداخلية. وديب هالاند من السكان الأصليين، وعضو بمجلس النواب ستكون، حال التصديق على تعيينها، أول السكان الأصليين في تاريخ أمريكا تولياً لمنصب وزاري. أما وزارة الداخلية الأمريكية فهي الوزارة المعنية بالأراضي الفيدرالية والمسؤولة عن الحفاظ على الأرض والماء والحياة البرية ومصادر الطاقة.
ومن ثم فهي الأكثر أهمية بالنسبة للسكان الأصليين، لأنها التي تتعلق بحماية أراضيهم وفق المعاهدات التي أبرمتها معهم الحكومة الفيدرالية. وقد كشفت جلسات استماع مجلس الشيوخ، التي انعقدت لبحث التصديق على تعيين هالاند، عن معارضة قوية من بعض الجمهوريين، كلهم من الرجال بالمناسبة، الذين استخدم بعضهم ضدها عبارات مهينة للمرأة.
بينما وصفها غيرهم بـ«الراديكالية»، كونها شاركت في حركة السكان الأصليين ضد إنشاء خط أنابيب يمر تحت أراضيهم، اعتبروه بمثابة «إبادة ثقافية» وانتهاكاً للمعاهدات المبرمة معهم، والتي تمنحهم السيادة الكاملة على تلك الأراضي.
غير أن الأهم من تلك المعارضة في تقديري، هو الحملة غير المسبوقة في قوتها التي تشنها منظمات السكان الأصليين للضغط على الأعضاء للتصديق على تعيين هالاند، خصوصاً في الولايات التي يشكلون فيها نسبة معتبرة من الناخبين. ومن هنا، فإن السؤال الأهم يتعلق بإمكانية أن يتحول الأمريكيون الأصليون لكتلة تصويتية يحسب حسابها، ودلالات ذلك للسكان الأصليين في كل مكان بالعالم.