بقلم: السفير محمد بدر الدين زايد – المصري اليوم
الشرق اليوم – تصدر كثير من وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية بحديث ترامب أول مارس الجاري، الذي تضمن الكثير من النقاط، أبرزها إعادة تأكيده على أنه فاز في الانتخابات، وأنه سيعود في الانتخابات المقبلة، على أنه ربما كان الأهم أنه لن ينشئ حزبا سياسيا جديدا وسيحافظ على وحدة الحزب الجمهوري، وإن كان طبعا لن يتسامح مع بعض قياداته التي صوتت ضده خلال محاكمته في الكونجرس مهددا عدد منهم بالاسم، وأنه سيدعم حملات منافسيهم في الانتخابات التمهيدية الجمهورية السابقة لانتخابات التجديد النصفي لمجلسي النواب والشيوخ.
كما أكد وجود انقسام في البلاد، وردد عبارة مهمة بأنه سيقاتل وأنصاره للحفاظ على الولايات المتحدة التي يعرفونها، وفي الحقيقة أن هذا التأكيد منطقي ومتسق مع ما هو ما حادث بالفعل في الولايات المتحدة بشأن خطورة الانقسام والاستقطاب الحالي في البلاد، والذي أظن أننا كنا من أوائل من كتبوا عنه كثيرا، وإلى دلالاته الخطيرة، وأنه ليس كالانقسام التاريخي الذي تعرفه البلاد تاريخيا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين يتقاسمان السلطة، وأن المعضلة فى حالة الاستقطاب وانكماش الوسطية السياسية في كلا الحزبين، واتساع الكتلة الليبرالية في مواجهة اتساع تلك اليمينية المحافظة، ومثلما عبرت سياسات ترامب عن يمينية متطرفة، فإن بايدن الذي هو أقرب إلى التيار الوسطي في الحزب الديمقراطي عليه أن يدفع فاتورة دعم الجناح الليبرالي المتصاعد داخل حزبه بما سمح بوصوله بهذا الانتصار الكاسح ضد ترامب، وطبعا لم يفت ترامب الفرصة للذم في بايدن، والضغط على مفاهيم معينة تستفز اليمين الأمريكي وتشعرهم بمخاطر تغير الخريطة السكانية الأمريكية، وأن الإدارة الجديدة تشجع الهجرة ودمج المهاجرين من غير البيض في المجتمع الأمريكي، التي يعتبرها مؤيدوه من المتطرفين اليمينيين مؤامرة من التيار الليبرالي لتغيير الخريطة السياسية في البلاد، وتغيير المجتمع الأمريكي من الداخل على غير هوى هذا اليمين.
وفي الواقع أن عودة ترامب كانت متوقعة لأن التيار الذي يعبر عنه لم يخرج أصلا من الساحة السياسية الأمريكية، والدليل أن هناك 70 مليون أمريكي صوتوا له، وهنا لابد من الإشارة إلى ملاحظة ضرورية، وهي أن هذا الرقم ليس كله من المغرمين أو الذين يتمنون ترامب على رأس حزبهم السياسي، أي الجمهوري، فهناك ملايين في وسطهم من التيار المحافظ الوسطى، والذي لا يتحمل غوغائية ترامب، ولا تشدد مؤيديه، ولكنهم مثلهم مثل ترامب لا يريدون انفراط عقد حزبهم أو بالأدق عقد التيار الجمهوري المحافظ كله، أي أن كلا الطرفين فضل وحدة التيار الأكبر الجمهوري، فمثلما منعت أغلبية الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ من إدانة ترامب التي كانت تحتاج إلى ثلثي الأعضاء، فإن ترامب أيضا اتخذ قرارا عاقلا بعدم إنشاء حزب جديد يضم مؤيديه، وتفهم أهمية المظلة الجمهورية الأكبر التي بدونها لن يتمكن الجمهوريون أبدا من الوصول إلى الحكم في ظل التغيرات الديموجرافية التي تتواصل في المجتمع الأمريكي بحيث تتراجع فيه سيطرة الجماعات الأنجلوساكسونية البروتستانتية، لحساب كافة المكونات الأخرى العرقية والدينية والتي ينتشر فيها الولاء أكثر للحزب الديمقراطي، ليس فقط دعما لأفكار ليبرالية وإنما كرها في عنصرية وتعالى اليمين الأمريكي الأبيض المحافظ الذي لا يريد التغيير، بل انتكست بعض قواعده في السنوات أو العقود الأخيرة وزاد تطرفها.
يشير التاريخ الأمريكي منذ بدايات القرن العشرين إلى أن نفوذ الرؤساء السابقين يصبح رمزيا أغلب الوقت بعد انتهاء فترة رئاستهم، ولا يختفى تماما بحكم تركيبة العملية السياسية في البلاد وداخل الحزبين الكبيرين وطبيعة التربيطات وأنماط التحالفات المعقدة في هذا النظام السياسى، فمن المعروف مثلا أن جورج بوش الأب رغم أنه لم يحصل إلا على ولاية رئاسية واحدة تمتع بتقدير ومكانة داخل الحزب بعد مغادرته تفوق ما تمتع به نجله جورج الابن الذي حصل على ولايتين، ولكنه لا يحظى بثقل كبير داخل الحزب حاليا، وهي أمور تظهر أيضا في الحزب الديمقراطي، فأوباما مازال يتمتع بمكانة ملحوظة مقارنة بالرئيس الأسبق كلينتون على سبيل المثال. والمؤكد أن ترامب سيكون نموذجا غير مسبوق مقارنة بالرؤساء السابقين، وذلك نتيجة لعدة أمور، أبرزها أنه يعبر بقوة عن تيار التشدد والديماجوجية داخل اليمين الأمريكي، بينما لا توجد قيادات بنفس الوزن والنفوذ في أجنحة الحزب الأخرى، أو على الأقل تحتاج وقتا لكي تتبلور وتفرض وجودها داخل الحزب الكبير المهتز حاليا والذي يحتاج إلى تماسك من نوع آخر، كما أن هذه الأجنحة الأخرى ضحت بوجهة نظرها في الشهور الأخيرة وساندت ترامب حرصا على تماسك الحزب، فهي تدرك إذن أي هذه القيادات أنها بحاجة إلى وقت كي يعاود ترامب أخطاءه وتصرفاته غير المنضبطة كي يمكن التخلص منه، كما أنها تستطيع المراهنة على الزمن أيضا، وهو ما لا يملكه ترامب.