بقلم: هشام ملحم – الحرة
الشرق اليوم- وصفت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق بأنها تاريخية، لأنها الاولى التي يقوم بها بابا الفاتيكان إلى بلاد الرافدين، حيث للمسيحيين فيها جذورا عميقة وقديمة قدم المسيحية. وربما الأصح القول إن الزيارة تاريخية بالرسائل الرمزية التي بعثتها إلى العراقيين من مسيحيين وغير مسيحيين، وإلى مسيحيي المشرق الذين لعبوا دورا بارزا وعبر القرون في بناء حضارات هذه المنطقة، ومن بينها الحضارة العربية-الإسلامية يفوق كثيرا حجمهم الديموغرافي. ولكن الحقيقة المّرة، التي يدركها البابا فرنسيس، ولكنه لا يقولها علنا، هي أن زيارته تأتي في لحظة أفول المسيحية والمسيحيين في المنطقة التي خرجت منها إلى العالم. المسيحيون في المنطقة الممتدة من وادي النيل إلى بلاد الرافدين يدركون أن افضل أيامهم ليست أمامهم، ولن تكون في أوطانهم الأصلية، بل ربما خارجها إذا اختاروا الهجرة، أو ارغموا عليها، أو اقتلعوا منها كما شهدنا في العراق وسوريا خلال طغيان وظلامية ما سمي “بالدولة الإسلامية” قبل سنوات قليلة.
زيارة البابا فرنسيس جلبت الاهتمام العالمي من جديد إلى العراق، بعد أن انشغل العالم بقضايا أخرى بعد هزيمة “الدولة الإسلامية” كقوة قتالية، وذّكرت العالم مرة أخرى بفداحة الخراب وفظاعة العنف الذي جلبته هذه القوى الوحشية لمسيحيي العراق في مناطقهم التاريخية في نينوى والموصل وقرقوش، وإلى الإزيديين وغيرهم من الأقليات. أن يصلي البابا فرنسيس في الموصل أمام ركام كنيسة قديمة فهو حدث ينضح بالمفارقات، لأن قدّاسه يأتي بعد 7 سنوات من خطاب المدعو أبو بكر البغدادي في جامع الموصل، والذي أعلن فيه ولادة خلافته الإسلامية، التي ستهزم “روما” والغرب المسيحي.
دعوة البابا فرنسيس إلى المسيحيين العراقيين في الخارج للعودة إلى وطنهم، هي دعوة نبيلة وصادقة، ولكنها لن تجد من يلبيها. إلى أي وطن يعودون؟ إلى الوطن الذي تعيث فيه خرابا ميليشيات مذهبية يتلاعب فيها النظام الإيراني؟ إلى وطن لا سقف له، لأن الذين نصّبوا أنفسهم أولياء عليه لا يتفقون إلا على نهبه. إلى بيوتهم المدمرة؟ إلى حياة القلق والخوف وانعدام اليقين؟ وهي حياة أكثرية العراقيين، وخصوصا الأقليات عير المسلحة.
دعوة المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني لحفظ أمن وسلامة المسيحيين وصيانة حقوقهم الكاملة وفقا للدستور، هي دعوة نبيلة وصادقة، ولكنها لن تغير أي شيء جوهري في حياة المسيحيين والإزيديين وغيرهم من الفئات المستهدفة في العراق.
“ﻛﺎﻥ ﻳﺎﻣﺎ ﻛﺎﻥ في قديم الزمان وﺳﺎﻟﻒ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﻭﺍﻷﻭﺍﻥ”، في مدن ساحرة صنعت حضارات وغيّرت العالم، اسمها بغداد والموصل ودمشق وحلب، وبيروت والقاهرة والإسكندرية فسيفساء إنساني متنوع شكّل فيه المسيحيون ألوانا برّاقة مع غيرهم من الأقليات الدينية والإثنية. المسيحيون بطوائفهم المختلفة، (كما اليهود) لهم جذور عميقة في هذه المدن. الأكراد الذين انتقلوا من وطنهم التاريخي المقسم بين 4 دول حديثة، ليعيشوا في بغداد ودمشق وحتى في بيروت، كانوا أيضا جزءا من هذا الفسيفساء الغني. وفي العصور الحديثة لجأت أقليات أخرى إلى هذه المدن إما هربا من الظلم والبحث عن الأمن مثل الشركس والأرمن، أو الازدهار الاقتصادي مثل اليونان والطليان.
لا يمكن فهم تاريخ هذه المدن من العصر الوسيط حتى منتصف القرن العشرين، دون فهم دور ومساهمة هذه الأقليات الدينية والإثنية في ازدهار وعطاء هذه المدن. المسيحيون من عرب وكلدان وأشوريين وأرمن ويونان وغيرهم مكانة متميزة في هذا الشأن، وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، في مجالات التعليم (وإحياء اللغة العربية) والثقافة والفنون بشكل عام، والعلوم والتجارة والاقتصاد. خلال الفترة التي عرفت بالكوزموبوليتانية تحولت هذه المدن، وخاصة الساحلية منها أي بيروت والإسكندرية إلى أهم المدن المتوسطية ازدهارا وتقدما لأسباب عديدة، أبرزها هو تنوعها الديموغرافي.
خلال صباي في بيروت، كان أحد أصدقائي المقربين يوناني قبرصي، ولأنني كنت أقيم في منطقة محاذية لأحياء أرمنية، تعلمت مفردات أرمنية عديدة من أصدقائي الأرمن. في المدرسة الابتدائية تعرفت على طلاب أكراد لجأوا من العراق. في شوارع بيروت كنا نسمع اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والأرمنية والكردية واليونانية، وكأننا في برج بابل جديد.
الأقليات المسيحية، من عربية وغير عربية (أرمن ويونان)، واليهود في لبنان وسوريا والعراق ومصر، بدأوا مغادرة هذه الدول، وتحديدا مدنها العريقة، بعد وصول العسكر إلى السلطة في انقلابات بعضها دموي، وجميعها متسلطة وقمعية وقومية وشوفينية، وفي أعقاب اضطرابات سياسية وأمنية، ومع بروز التيارات الإسلامية المتشددة. النزاع العربي-الإسرائيلي ساهم بشكل مباشر وغير مباشر بهجرة اليهود، الذين شكلوا في بداية القرن العشرين أكثر من عشرين بالمئة من سكان بغداد. ولعبت إسرائيل والأنظمة العسكرية العربية دورا خبيثا في هذا المجال. سياسات التأميم الانتقامية في دول مثل مصر وسوريا أرغمت ضحاياها وبعضهم ينتمون إلى هذه الأقليات الدينية إلى الهجرة. وهكذا هاجرت الجالية اليونانية المهمة اقتصاديا وثقافيا الإسكندرية والقاهرة، وهاجر معهم الأرمن. عندما احتلت إسرائيل القدس العربية في 1967، كان عدد الفلسطينيين المسيحيين في المدينة حوالي 37 ألفا. اليوم، أصبح عددهم أقل من 10 آلاف نسمة بسبب الضغوط الاقتصادية والسياسية المفروضة عليهم من قبل إسرائيل، وأبرزها أعمال الاستيطان. الوجود المسيحي التاريخي والهام في القدس يقترب من نهايته.
في السنوات الماضية، تعرضت كنائس المسيحيين في العراق ومصر وسوريا، خلال المراسم الدينية، إلى التفجير من قبل المتطرفين والإرهابيين الإسلاميين. وأساقفة الكنائس في العراق وسوريا تعرضوا للاغتيال أو للخطف والترهيب.
في العقدين الماضيين، شهد العراق وسوريا حروبا داخلية رهيبة وبطش بشع من السلطات الحاكمة، وغزوات مدمرة من الخارج، وظواهر إرهابية إسلامية تسببت بخسائر بشرية هائلة، وأدت إلى اقتلاع آلاف المسيحيين من قراهم ومناطقهم التاريخية في البلدين وأرغمت مئات الآلاف منهم على الهجرة. قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003، كان عدد المسيحيين في العراق يقدر بحوالي مليون ونصف المليون. ولكن الاضطرابات السياسية وأعمال العنف والإرهاب الذي استهدف القادة الروحيين للمسيحيين وازدياد الأحقاد الطائفية مع بروز الحركات الإسلامية الظلامية، انخفض عدد المسيحيين العراقيين إلى أقل من 400 ألف نسمة. لا أحد يعرف بالضبط عدد المسيحيين السوريين الذين هاجروا سوريا أو هربوا منها أو اقتلعوا منها خلال العقد الماضي، ومعظم التقديرات تشير إلى حوالي نصف مليون على الأقل، من بين مليوني مسيحي سوري. ازدادت وتيرة هجرة المسيحيين من لبنان منذ “حرب السنتين” 1975-1976 وبسبب الاضطرابات وأعمال العنف في العقود الماضية، وتفاقم التوترات الطائفية والمذهبية، وأخيرا الأزمات الاقتصادية الخانقة.
زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، يجب أن تكون مناسبة لمراجعة ما وصل إليه حال المسيحيين ليس فقط في العراق بل في دول المشرق . ليس من المبالغة القول إن مصر وسوريا والعراق ولبنان لم تتعاف حتى الآن من المضاعفات السلبية السياسية والاقتصادية والثقافية لهجرة أو تهجير المسيحيين (وغيرهم من الأقليات) . وليس من المبالغة القول إن استمرار هجرة أو تهجير المسيحيين، وما تبقى من الأقليات الأخرى، من دول المشرق سيجعلها أكثر فقرا وأكثر قحطا.