بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم- موافقة مجلس الشيوخ، وإن بأكثرية من صوت واحد على خطة تحفيز الاقتصاد ومساعدة ضحايا فيروس كورونا والبالغة قيمتها تريليوناً وتسعمئة مليار دولار، ما يجعلها من أبرز خطط التحفيز الاقتصادي في تاريخ البلاد، تمثل انتصاراً كبيراً للرئيس الأميركي السادس والأربعين جوزف بايدن، تزامن مع يومه الخامس والأربعين في البيت الأبيض. ولكن إقرار الخطة بصوت واحد، مقابل المعارضة الجمهورية الشاملة لها، وبعد مناقشات ومقايضات ومساومات بين الديموقراطيين أنفسهم، يظهر من جديد التحديات التي ستواجه مشاريع الرئيس بايدن الداخلية، مثل إصلاح قوانين الهجرة، وتغيير القوانين الضرائبية لمساعدة الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود، والاستثمار في إعادة بناء البنية التحتية المتآكلة.
ولكن المشاكل والجدل والمساومات التي أحاطت بإقرار الخطة في مجلس الشيوخ (مشروع القانون سوف يعود من جديد الى مجلس النواب لكي يوافق عليه موافقة نهائية قبل رفعه الى الرئيس بايدن ليصبح ساري المفعول بعد أن يوقع عليه) يجب أن لا تقلل من الأهمية التاريخية للخطة المعروفة رسمياً بخطة الإنقاذ الأميركية. وكما قال أحد المعلقين، هذا النوع من النجاح الذي حققه بايدن، يحسده عليه آخر رئيسين ديموقراطيين: كلينتون وأوباما، اللذين لم يحققا في بداية ولايتيهما انتصارات تشريعية مماثلة على الرغم من أنهما كانا يتمتعان بأكثرية ديموقراطية في مجلسي الكونغرس تفوق الأكثرية البسيطة جداً التي يتمتع بها بايدن الآن في مجلسي النواب والشيوخ.
إصرار بايدن على طرح خطة تحفيز اقتصادية هي ضعف خطة التحفيز التي طرحها الرئيس الأسبق أوباما في 2009 في أعقاب الأزمة الاقتصادية الضخمة التي ورثها من الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، تبين أنه تعلّم من خطأ إدارة أوباما، التي كان هو طرفاً بارزاً فيها، لأن خطة أوباما لم تكن طموحة كما اقتضت التحديات آنذاك، ولذلك لم يشعر بها أو بفوائدها المواطن الأميركي.
هذه المرة سوف يلمس معظم الأميركيين إثر هذه الخطة عندما يستلمون شيكاً بقيمة 1400 دولار، وعندما يحصل العاطلون من العمل على تعويضات مالية بقيمة 300 دولار أسبوعياً حتى نهاية الصيف. وسوف تؤدي المساعدات المالية والضرائبية لذوي الدخل المحدود وللعائلات التي لديها أطفال الى تقليص معدلات الفقر بحوالي الثلث هذه السنة. الخطة سوف تساعد أيضاً أصحاب المحال الصغيرة، وسوف توفر المساعدات للولايات وللمدن التي تضررت من جائحة كورونا.
صحيح أن الخطة لم تحظ ولو بصوت جمهوري واحد في الكونغرس، ولكن الخطة حظيت بدعم بعض الحكام الجمهوريين ورؤساء البلديات الجمهوريين. والأهم من ذلك أظهرت استطلاعات الرأي أن الخطة تحظى بتأييد 75 بالمئة من الأميركيين، بمن في ذلك أكثرية من الناخبين الجمهوريين، ما يعني أن هناك هوة بين الجمهوريين في الكونغرس والناخبين الجمهوريين. الجمهوريون في الكونغرس خلال ولايتي كلينتون وأوباما نجحوا في التشكيك في جدوى خطط الرئيسين الديموقراطيين، ونجحوا – وخاصة خلال ولايتي أوباما – في تشويه أهم إنجاز داخلي له، أي قانون العناية الصحية (أوباما كير) ووضعه في موقع دفاعي. ومن الواضح أن الجمهوريين هذه المرة أخفقوا في وقف خطة بايدن، ولم تنجح محاولاتهم العقيمة في وصف الخطة على أنها تعكس “اشتراكية” الحزب الديموقراطي، وراقبوه بعجز، وهو يحقق مثل هذا الانتصار التشريعي الذي ستتردد أصداؤه لسنوات عديدة، وذلك خلال شهره الثاني في البيت الأبيض.
وسوف يساهم إقرار الخطة، التي خصصت مئات المليارات لمكافحة فيروس كورونا وإضراره الاقتصادية، في التسريع بعمليات تلقيح الأميركيين، ما يعني التسريع في إعادة العافية الى الاقتصاد الأميركي قبل المواعيد الأولية التي طرحها بايدن. وكان بايدن قد ألزم حكومته بتلقيح مئة مليون أميركي خلال أول مئة يوم له في البيت الأبيض، وأن اللقاح سوف يتوفر لجميع الأميركيين مع نهاية شهر يوليو. ولكن سرعة وتيرة عمليات التلقيح في الأسابيع الماضية دفعت ببايدن للقول إن تلقيح الأميركيين سوف ينتهي في نهاية شهر مايو. ويوم أمس (السبت) وصل عدد الأميركيين الذين تلقوا التلقيح في يوم واحد الى حوالي ثلاثة ملايين (2.9) وهو رقم قياسي. وحتى الآن يحظى أداء بايدن في مكافحة الجائحة بتأييد شعبي كبير وفقاً لاستطلاعات الرأي، بعكس الأداء الرديء لسلفه دونالد ترامب.
بعد 45 يوماً “عادياً” للرئيس بايدن في البيت الأبيض، لا يشعر الكثير من الأميركيين بأي حنين الى الصخب والفوضى التي كانت تنضح من البيت الأبيض خلال ولاية دونالد ترامب، إن كان عبر الإهانات والتهديدات التي كان “يغرد” بها، أو الى المعارك الدونكيخوتية التي كان يختلقها، أو الانتصارات الوهمية التي كان يدّعيها. تغريدات بايدن القليلة والهادئة، تذكّرنا بتغريدات الرئيس الأسبق أوباما. المسؤولون في إدارة بايدن، بعكس المسؤولين في إدارة ترامب، لا يطعنون بعضهم البعض في الظهر، ولا يسرّبون للإعلاميين معلومات أو ادعاءات لإلحاق الضرر بمسؤولين آخرين، أو حتى برئيسهم. ترامب كان يكذب ويضلل ويبالغ بشكل “طبيعي” ومن دون أي جهد. ترامب كان يفتخر في تحدياته للأعراف والتقاليد ولكل ما هو مألوف. كان يتقرب من الزعماء “الأقوياء” والأوتوقراطيين والطغاة ويمدحهم علناً، بينما كان ينتقد ويستخف بقادة الدول الديموقراطية والحليفة لأميركا. بايدن في المقابل، يتصرف كرئيس أميركي عادي متمسك بالتقاليد والأعراف وما هو مألوف. ترامب كان ينضح بالدراما المصطنعة، ويتصرف كنجم ومرفّه من الطراز الثالث. بايدن في المقابل يبدو بسلوكه وكلامه عادياً، وأحياناً مملاً، ما يجعله إنساناً حقيقياً ورئيساً طبيعياً.
بعد أربع سنوات من الضجيج والصخب والغضب والتهوّر، الذي جلبه معه دونالد ترامب، الرئيس الأميركي الأقل أهلية لحكم البلاد، يرى العديد من الأميركيين في بايدن رئيساً استأنف السير على خطى أسلافه، يحترم وعوده ولا يشيطن أولئك الذين يختلف معهم سياسياً ولا يحرق الجسور معهم، وأثبت خلال أول 45 يوماً له في البيت الأبيض أنه قادر على تنفيذ وعوده، وحتى على تحقيق إنجازات تشريعية وسياسية تاريخية، سوف يشعر بها الأميركيون لوقت طويل.