بقلم: مصطفى فحص – الحرة
الشرق اليوم- مائة يوم ما بين الهزيمة العسكرية والأزمة السياسية، لم تتحمل النخب السياسية التقليدية والعسكرية في يريفان استمرار رئيس الوزراء في السلطة، ترددت بمطالبته بالتنحي فور انجلاء غبار المعركة، فقساوة الهزيمة تركت ثقلها على الجميع، حتى حليفهم التاريخي تصرف كمن على رأسه الطير، لذلك اشتبه بعضهم علانية بتواطئه، فقد كانت موسكو بداية معنية بانتزاع اتفاقية السلام بين جارين متخاصمين، ولم تبد إشارة إلى أن الهزيمة تفرض تغييرا سياسيا، وكان الجيش الأرميني حليفها الدائم في حيرة أيضا، فهو عالق ما بين سمعته واحترامه وضرورة حفاظه على مسافة متساوية من كل الفرقاء وعدم تدخله مطلقا بالسياسة، وبين معارضة تستجدي تدخله من أجل عودتها إلى السطلة التي خسرتها في الشارع قبل عامين.
كان “اسكندر” وفشله أو اتهامه بالفشل اللحظة الفاصلة لإعلان التمرد، بعدما غمز رئيس الوزراء نيكول باشينيان من قناة موسكو عبر منظومة اسكندر الصاروخية وانتقد عدم فعاليتها، الأمر الذي أثار موسكو التي رفضت التعرض لصناعتها العسكرية وخصوصا لصاروخ تعتبره فخر صناعتها الصاروخية، ونفت وزارة الدفاع دخول منظومة صواريخ اسكندر أصلا في معركة قره باغ، وعلى الأرجح أن المعارضة والجيش تلقفا ما صرح به باشينيان وردة فعل موسكو عليه، بهدف فتح معركة سياسية معه والمطالبة بإسقاطه.
وفي هذا الصدد لا يستبعد الخبير في الشؤون الروسية سامر إلياس نقلا عن مصدر مطلع في يريفان “أن تكون روسيا قد منحت الجيش والمعارضة الضوء الأخضر لزيادة الضغط على باشينيان وحكومته”.
وعلى وقع أزمة متصاعدة، أدى التوتر السياسي في يريفان إلى انقسام الشارع بين موال ومعارض، لكن حتى الآن فشلت المعارضة في التحشيد الشعبي ضد الحكومة، كما فشل الجيش القريب منها بالضغط على رئيس الوزراء ودفعه إلى الاستقالة، فيما أصر الأخير على التمسك بقراره بإقالة نائب رئيس هيئة الأركان تيران خاتشاتوريان على خلفية استهزائه بتصريحات رئيس الوزراء حول فاعلية صواريخ اسكندر، الأمر الذي دفع هيئة الأركان و40 جنرالا من قادة الوحدات والإدارات العسكرية إلى التوقيع على بيان ينتقدون فيه ما وصفوه “بالخطوات قصيرة النظر وغير المبررة” من قبل الحكومة، من ضمنها إقالة خاتشاتوريان، وشددوا على أن الإقالة قرار “غير مسؤول ومناهض للدولة” مستفيدين من قرار رئيس الجمهورية رفض التوقيع على قرار الإقالة.
ومما لا شك فيه أن المعارضة تحركت تحت فرضية اقتراب نهاية باشينيان السياسية، لكنها اكتشفت أنها لا تملك الأدوات الكافية لإزاحته، أما الجيش الذي اتهمه باشينيان بتدبير انقلاب عسكري، فهو حذر من التدخل في السياسة وأن ينحاز مع طرف ضد آخر، بالرغم من الخصومة بينه وبين الحكومة.
ورغم أن باشينيان خسر الكثير من شعبيته، إلا أن المعارضة لم تستطع توحيد الشارع وهي مصرة على تقديم وجوه قديمة يرفضها الشارع ويحملها مسؤولية فشل إدارة الدولة طوال عقدين.
وأظهر استطلاع نشره مركز كارنغي للسلام في موسكو أن باشينيان يحتفظ بالدعم الشعبي وأنه في نوفمبر عندما بلغت مشاعر الهزيمة ذروتها، أيد حوالي 30% من السكان باشينيان. نتائج الاستطلاع الأخير أكثر إثارة للاهتمام، إذ طلب من المشاركين تقييم السياسيين على مقياس من 1 إلى 5، وحصل باشينيان على تصنيف 2.8 نقطة مقارنة بـ 2.0 للرئيس السابق روبرت كوتشاريان، و1.7 لرئيس سابق آخر وهو سيرج سركسيان (كلا الرئيسين السابقين قد أعربوا عن دعمهم للجنرالات ضد باشينيان)، و1.6 لزعيم المعارضة مانوكيان (الذي تعاون مع كوتشاريان).
أمام هذا الستاتيكو تتجه الأنظار نحو موسكو التي قبلت بباشينيان قبل عامين على مضض بعد وصوله إلى السلطة نتيجة تظاهرات شعبية تبنت شعارات الثورات الملونة وأطاحت بحلفائها، لكن أغلب تصريحاتها تشير إلى أنها ستبقى بعيدة في هذه الفترة، فهي لن تتدخل لصالح معارضة مرفوضة من الشارع، ولا يمكنها الرهان على جيش خرج لتوه من هزيمة تاريخية، وليست على استعداد في هذه المرحلة للدخول إلى جانبه بحرب من أجل استعادة هيبته، كما أن الكرملين الذي تحدث رئيسه مع باشينيان بعد تهديد الجيش له يأخذ بالحسبان أن الأخير لم يزل السياسي الأكثر شعبية والقادر على التكيف مع المتغيرات الداخلية والجيوسياسية في القوقاز.