بقلم: بيشوي رمزي – اليوم السابع
الشرق اليوم – “عودة ترامب”.. عنوان يبدو مهيمنا على الساحة الدولية، بعد أسابيع من خروجه من البيت الأبيض، وذلك في أعقاب ظهوره القوي في مؤتمر للمحافظين، ليلقي كلمة، خصصها ليصب “جام” الانتقادات على خصومه الديمقراطيين، وعلى رأسهم إدارة الرئيس جو بايدن، سواء فيما يتعلق بمواقفه الدولية، أو سياساته في الداخل، وهو ما حظي بقبول كبير من الشارع السياسي الجمهوري، في الولايات المتحدة، مدعوما بدعم المواطن غير المسيس، والذي وجد في الرئيس السابق ضالته، باعتباره المدافع الأول عن مصالحه بعيدا عن نظريات السياسة التقليدية، وقدرته الفائقة على “كسر” القوالب التقليدية التي طالما تبنتها الإدارات واحدة تلو الأخرى، في إطار الحفاظ على المكانة الدولية لواشنطن، على قمة النظام العالمي.
ولعل ظهور دونالد ترامب، بعد شهر تقريبا من النزول عن “عرش” البيت الأبيض، هو في ذاته أحد الأعراف، التي كسرها الرجل، حيث أبى أن يكون “رئيسا سابقا وكفى”، على عادة كافة أسلافه، الذين يكتفون بالظهور البروتوكولي في المناسبات الرسمية، والانكفاء على كتابة المذكرات، أو تأسيس مراكز بحثية، أو منظمات حقوقية، قد تهتم بشئون الإنسان، وأحيانا الحيوان، بينما يبتعدون عن “حلبة” الصراع السياسي، ليصبح ظهوره امتدادا لمزيج من الخبرات التي طالما اكتسبها، سواء كرجل أعمال، يجيد إدارة الاقتصاد، أو ممثل سابق في تلفزيون الواقع الأمريكي، يجيد إقناع مشاهديه بالشخصية التي يتقمصها، بمختلف ظروفها، سواء كان في السلطة، أو بعد ذلك على مقعد المعارضة السياسية، أو حتى كمصارع سابق، سبق له الظهور في حلبات المصارعة الحرة، قد يقبل الهزيمة على مضض، ولكنه يبقى قادرا على القيام مجددا للثأر من الخصوم، عبر اختيار لحظات ارتباكهم، ليضربهم بـ”القاضية” التي تعيد له هيبته، على الأقل معنويا، إلى حين إشعار آخر.
خطاب الرئيس السابق أمام المحافظين، هو بمثابة “قومة” المصارع، بعد السقوط، ليضرب بها أكثر من عصفور بحجر واحد، أولها تقديم صورة جديدة للمعارضة في الولايات المتحدة، بعيدا عن الشكل النمطي، والذي اعتادت عليه الأحزاب الأمريكية طيلة السنوات الماضية، والتي تقوم في معظمها على انتقادات “معلبة” للحزب الحاكم، لا تخرج عن الخطوط المسموح بها، في ظل الثوابت الأمريكية، القائمة على حرمة المساس بالمبادئ التي طالما تبنتها واشنطن، لتكون أداتها لقيادة العالم، على غرار الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتحالفات الدولية لأمريكا، وسياسة الانتشار العسكري، باعتبارها الضمان لبقاء النفوذ الأمريكي.
وهنا تحولت المعارضة في الولايات المتحدة، من شكلها المؤسسي الأنيق تحت قيادة الكيان الحزبي، إلى ما يمكننا تسميته “ثورة”، تحت قيادة “زعيم” يحظى بشعبية كبيرة، تتجاوز القاعدة الحزبية التقليدية، ليجد الحزب نفسه في نهاية المطاف مضطرا إلى تجاوز خلافاته مع الرجل، والتي ربما تجلت بوضوح، منذ قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عبر تصريحات وانتقادات عدد كبير من قيادات الحزب له، ليقدمه أمام الجماهير باعتباره “قائدا” للمعارضة الأمريكية، رغم “أنف” منتقديه.
وبذلك يتجلى العصفور الثاني، الذي نجح الرئيس السابق في اقتناصه، عبر ظهوره أمام الملايين، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، وهو توحيد الجمهوريين تحت قيادته، وذلك بعد أسابيع من التشرذم، بدأت قبل الانتخابات الرئاسية، مع ظهور الأصوات المعارضة له، داخل الحزب، وعلى رأسهم تيار الصقور، والذي يعد أحد ركائز المحافظين في الولايات المتحدة، بينما تزايدت فجوة الانقسام بعد ذلك مع خسارته أمام منافسه جو بايدن، وما تلى ذلك من جدل كبير حول نزاهة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، بسبب رفض البيت الأبيض الاعتراف بالهزيمة، والتشكيك في النتائج التي آلت إليها، في سابقة لم تحدث من قبل في الولايات المتحدة، ربما تترك تداعيات كبيرة، كان على رأسها الاحتجاجات التي بلغت ذروتها مع محاولة اقتحام الكونجرس لمنع التصديق على فوز الرئيس الجديد.
بينما يبقى ظهوره رسالة مهمة للديمقراطيين، مفادها أن ترامب “عاد لينتقم”، وهو ما يبدو في الانتقادات الكبيرة، التي كالها لسياسات بايدن، سواء في الداخل أو الخارج، خاصة مع المحاولات المستميتة لعزله، بعد خروجه من المنصب، فيما يشبه محاولة “الاغتيال” السياسي للرجل، في ظل إدراكهم لحقيقة مفادها أنه بقاءه ربما يشكل لهم أزمة كبيرة، ليست فقط في عام 2023، وهو موعد انطلاق الانتخابات الرئاسية القادمة، وإنما قبل ذلك، في ظل حالة القبول الكبير للرجل في الشارع، وقدرته على “تأليب” الرأي العام ضدهم في الأيام المقبلة، ومع اقتراب المناسبات الكبيرة، وعلى رأسها انتخابات التجديد النصفي المقررة في العام المقبل.
ظهور ترامب، في حقيقته أشبه بـ”عودة” المارد، الذى يخشاه الجميع، ويمثل انتصارا جديدا، وإن كان معنويا، لحقبته، في ظل حالة القبول الكبير التي مازال يحظى بها الرجل، رغم ابتعاده عن السلطة، في انعكاس جديد لشعبيته الكبيرة، مكنته من قيادة حزبه فعليا، ليطلق معركة، أو بالأحرى ثورة جديدة، على خصومه السياسيين في الداخل الأمريكي.