بقلم: حسن المصطفى – صحيفة “الرياض” السعودية
الشرق اليوم – السياسة تُبنى على القراءة التحليلية المتأنية للأحداث، هي ليست مواقف عاطفية تنطلق بهدف التنفيس عن الاحتقان أو التعبير عن الغضب، وهي أيضاً لا تستقيم مع ردات الأفعال المتسرعة.
السياسة والدبلوماسية المؤثرة تقومان بالأساس على امتصاص المواقف العدائية والمتوجسة، ومحاولة التعامل معها بطريقة تجعلها أقل ضرراً، وبكلفة متدنية، لكي تكون الخسائر في حدودها المحتملة، فيما حصادُ النجاحات هو الأعلى.
أيضاً الدبلوماسية مزيج من اللين والقوة، استخدام وسائل متعددة للوصول إلى كل هدف، وفق ما يناسبه، ودائماً عبر الطريق القانوني الذي يحترم الأنظمة والاتفاقات الدولية، ويبتعد عن الالتفاف على الأنظمة. لأن احترام النظام والمعاهدات، مهما كان مكلفاً، إلا أنه يمنح الدول مصداقية. والأهم، أن يتواكب هذا الامتثال القانوني مع قوة مادية وسياسية واقتصادية وثقافية، تجعل لموقف الدولةِ وقعاً بين الأمم.
تقرير وكالة المخابرات الأميركية، الذي تم نشر أجزاء منه حول جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وطريقة التعامل معه، كان مثالاً حياً واختباراً للدبلوماسية المرنة والحازمة في آن معاً، فتعليق الخارجية السعودية في البيان المقتضب الذي أصدرته، اتسم بالصراحة والوضوح ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة، أي أنه يضع سياجاً يحمي فيه المصالح الوطنية، بذات الطريقة التي تحمي بها الولايات المتحدة الأميركية مصالحها الداخلية التي لا تعني الرياض في شيء، وفي ذات الوقت مد بيان الخارجية يداً للتعاون مع واشنطن، باعتبارها دولة صديقة ومؤثرة في السياسة الدولية.
الرياض لم تقف محتارة أو خائفة أمام “التسييس” و”الاستنتاجات” الفاقدة للأدلة التي بُني عليها تقرير وكالة المخابرات الأميركية، ولم تتردد في رفضه، حتى لو جاء من جهاز رئيسٍ ومؤثر في دولة عظمى وصديقة، لأن الأساس في العلاقة بين الدول يقوم على الاحترام المتبادل، والشفافية، والاستقلالية، وبالتالي حق كل دولة في رد ودحض ما تعتبره معلومات واستنتاجات غير صحيحة ومضللة.
في المقابل، تدرك السعودية أهمية الولايات المتحدة في تعزيز السلم العالمي، وسوق الطاقة، ومجابهة الإرهاب، والتصدي للجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، وأيضاً التعاون الثنائي الذي تريده أن يتعزز في مواجهة البرنامج النووي الإيراني وقدرات طهران الصاروخية بعيدة المدى وخططها التوسعية. ولذا، لم تذهب الرياض صوب الصدام مع واشنطن، كما يرغب خصومها أو بعض البسطاء، بل أكدت على أن علاقة البلدين عبارة عن “شراكة قوية ومتينة، ارتكزت خلال الثمانية عقود الماضية على أسس راسخة قوامها الاحترام المتبادل.. تعمل المؤسسات في البلدين على تعزيزها في مختلف المجالات، وتكثيف التنسيق والتعاون بينهما لتحقيق أمن واستقرار المنطقة والعالم”.
بالتأكيد، الأيام القادمة ستكون حُبلى بالكثير من المتغيرات، الإيجابية والسلبية، وهذا أمر يجب ألا يدعو إلى القلق، لأن الأهم هو التركيز على بناء دبلوماسية فعالة، مؤسسية، استشرافية، متنوعة، تواصلية، قوية، قادرة على التعامل والتكيف مع المتغيرات، وتحويل الضغوط إلى نقاط قوة في صالح السياسية الخارجية السعودية.