بقلم: عاطف السعداوي – سكاي نيوز عربية
الشرق اليوم- قبل نحو عامين حل البابا فرانسيس ضيفا كبيرا على دولة الإمارات العربية المتحدة تلبية لدعوة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، وهي الزيارة التي شهدت توقيع وثيقة “الأخوة الإنسانية والسلام العالمي والعيش المشترك” من قبل الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان.
هذه الزيارة مثلت دليلا جديدا وقتها على تنامي الدور الحضاري الذي باتت تلعبه دولة الإمارات وقادتها في نشر قيم التسامح والتعايش بين الأديان، وقتئذ كان جليا أن هناك انسجاما وتلاقيا بين رسالة الإمارات القائمة على تعزيز فرص الحوار بين الشعوب ودعم قيم المودة والتعاون وقبول الآخر والسعي لترويج فضائل التآخي والتعايش السلمي، وبين رسالة رأس الكنيسة الكاثوليكية وسيد دولة الفاتيكان الذي يعد رمزا عالميا من رموز السلام والتسامح وتعزيز روابط الإخوة الإنسانية، والذي لم يدخر جهدا خلال جميع رحلاته الخارجية في الدعوة للحوار بين الأديان وإدانة العنف باسم الدين.
وهنا كان منطقيا أن تكون أبوظبي هي بوابة الحبر الأعظم إلى دول المنطقة وشعوبها، فالرسالة واحدة والهدف واحد.. فكل أصحاب النوايا الحسنة يجب أن يعملوا سويا من أجل السلام والتعايش والتسامح، وقبل نحو شهرين تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بإعلان الرابع من فبراير من كل عام ليكون “اليوم العالمي للأخوة الإنسانية”، وهي المبادرة الإماراتية التي اعتمدتها الأمم المتحدة، تخليدا لذكرى ذلك الحدث الإنساني الكبير الذي حمل رسالة سلام وإخاء ومحبة للعالم بأسره والمتمثل في توقيع الوثيقة المشار إليها في الرابع من فبراير 2019.
لذا قد يكون مفيدا هنا استعراض أهم ما يميز التجربة الإماراتية في مكافحة التطرف ونبذ التعصب ومحاربة الإرهاب ونشر التسامح، وهي التجربة التي أهلت الإمارات لتكون الدولة الخليجية التي تحظى بشرف الزيارة الأولى لخليفة القديس بطرس للجزيرة العربية، وهي أيضا التجربة التي جعلت مبادرتها أمام الأمم المتحدة تحظى بتوافق كبير في الآراء.
ركائز التجربة الإماراتية في مكافحة التطرف
تستند التجربة الإماراتية في مكافحة التطرف إلى ركيزتين أساسيتين هما سبب نجاحها وسر تميزها عن غيرها من تجارب دول أخرى، الركيزة الأولى هي الرؤية التي تنطلق منها جهود الإمارات في المكافحة، وهي رؤية متفردة لا تنظر للإرهاب والتطرف على أنه تهديد داخلي فحسب وإنما تهديد لأمن واستقرار محيطها الإقليمي القريب ومحيطها الدولي، الذي وإن بدا أبعد جغرافيا إلا أنه وثيق الصلة بها والتأثير عليها والتأثر بها وبما تتخذه من قرارات وإجراءات وبما ترسمه من سياسات، وبالتالي فإن الرؤية الإماراتية هنا قائمة على أن انتفاء خطر الإرهاب والتطرف داخل حدودها أو عدم وجود تهديد آني عليها لا يعني عدم وجود تهديد مستقبلي، وبالتالي لا يستدعي ذلك انتفاء دورها في مواجهة هذه الشرور، وهنا تنطلق الإمارات من قناعة رئيسية تتمثل في أنه وإن تلاشى الخطر المباشر للإرهاب عليها آنيا أو حتى مستقبلا، فإنه لا يمكنها أن تعيش مستقرة في ظل محيط غير مستقر يعاني من ويلات الإرهاب والتطرف، لذا تسعى الإمارات دائما إلى تعميم تجربتها الناجحة في مكافحة التطرف ونشرها إقليميا ودوليا، وهنا لا يبدوا غريبا أن الإمارات وإن كانت من أقل دول العالم تعرضا لخطر الإرهاب وأقلها تضررا منه، لكنها من أكثرها حرصا على مكافحته واجتثاثه من جذوره أينما كان موضعه، ما يؤكد نهجها الراسخ القائم على قيم الخير والسلام والعطاء الإنساني.
أما الركيزة الثانية وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالركيزة الأولى ونتيجة طبيعية لها فتتمثل في أن مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب أصبحت على رأس أولويات صناع القرار في دولة الإمارات ومحركا أساسيا لسياستها الخارجية، وليس فقط لسياساتها الداخلية، ما يعكس رؤية وإرادة إماراتية قل نظيرها للتصدي لهذه الظاهرة وتخليص العالم منها، وصناعة مستقبل أفضل للشعوب محصن من خطر الإرهاب وآفة التطرف
رؤية استباقية ومقاربات غير تقليدية.
كانت دولة الإمارات من أوائل الدول وأكثرها جدية في إدراك مخاطر التطرف الفكري وما يقود إليه بالضرورة من إرهاب، لذ انتبهت مبكرا إلى أهمية إيجاد استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب، ومقاربات غير تقليدية لا تقتصر فقط على المقاربة الأمنية التي تعالج فقط تجليات الظاهرة، ولكن مقاربات شاملة تتجاوز تجليات الظاهرة نفاذا إلى جذورها، وهنا يمكن وصف الرؤية الإماراتية في مكافحة التطرف بأنها رؤية استباقية تذهب لمكامن الخطر وبؤر التهديد بدلا من انتظارها، لذا تبنت حلولا غير تقليدية كضرورة تجفيف المنابع الفكرية والثقافية التي تغذي التطرف وتحرض على الكراهية على المستوى المحلي وعلى المستويين الإقليمي والدولي، ومن ثم كانت الإمارات من أوائل الدول التي دعت إلى ضرورة أن تواكب الحملات الأمنية ضد الإرهابيين، حملات فكرية تفند أكاذيبهم، وتكشف عن أهدافهم الحقيقية، إيمانا منها بأن الإرهاب لن ينهزم إلا بهزيمة الفكر الذي يحرض عليه.
شمول المواجهة
نماذج كثيرة تشير إلى أن المقاربة الإماراتية في مكافحة التطرف تعتمد على شمول المواجهة التي تبدأ من التصدي للفكر الفاسد والإيديولوجيات المتطرفة التي تغذي العنف والكراهية، وتحرض على القتل والدمار، وتمتد إلى التمويل ووسائل التجنيد والدعاية وتنتهي بالتنظيمات الإرهابية المسلحة، وإجمالا يمكن القول إن الإمارات تبنت استراتيجية شاملة لمواجهة الجوانب المتعددة للظاهرة الإرهابية عبر اربع محاور رئيسية هي: المحور الديني والثقافي والإعلامي، والمحور القانوني والتشريعي، والمحور الأمني، وهي المحاور التي سنتطرق إليها في المقال المقبل إن شاء الله.