بقلم: محمود حسونة – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – عندما يعيّن رئيس جديد في شركة أو مؤسسة، ويقوم بالانقلاب على سابقه، سواء على مستوى الأشخاص، باستبعاد من كانوا يشاركون «السابق» بالقرار والمسؤولية، أو على مستوى نهج وأسلوب العمل والإدارة، يتم انتقاده، واتهامه بمحاولة تشويه الإدارة السابقة، وطمس معالم إنجازاتها. وعندما يتعلق الأمر بإدارة الدول يكون الانتقاد أكثر حدة، خصوصاً أن التغيير قد يتضمن هدم كل ما بنته الإدارة السابقة، والبدء بتشييد ما يتوافق مع الإدارة الجديدة، ولا يمكن تسمية ما يحصل سوى إهدار للمال العام.
المحللون والاختصاصيون يجمعون على أن التغيير في الدول الكبرى ليس سوى تغيير أشخاص لا سياسات، ويطلقون مصطلح «دولة مؤسسات» على دول العالم الأول، دول تحكمها مؤسسات عتيدة لا تسمح لشخص الرئيس بالعبث بها، وتغيير القرارات التي اتخذها سابقه؛ لكن عندما نطبّق ذلك على الحالة الأمريكية نجده مجرد كلام، لا علاقة له بالواقع.
خبراء الفضائيات، ومن يعتبرون أنفسهم أساتذة التحليل، رددوا كثيراً أن النظام الأمريكي لا يسمح للرئيس بإجراء تغييرات جوهرية على قرارات وسياسات نهجه، وأن الرئيس ليس هو من يحكم، أو يتحكم في أمريكا، لكن الواقع يثبت أن الرئيس بشخصه ومن خلال أعضاء إدارته يحكم، ويتحكم، ليس في الولايات المتحدة فقط، ولكن في العالم، مع استثناءات محدودة جداً؛ ومن يتأمل الحالة الأمريكية منذ أوباما، يدرك أن المؤسسات غالباً ما ترضخ لإرادة الرئيس، ونادراً ما تعيق قراراته، وهو ما يمكن تطبيقه على السياسة الداخلية والخارجية، مع القليل جداً من الثوابت غير المسموح بمسها، أو تعديل الموقف بشأنها، وعلى رأس الثوابت الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية العلاقة الطيبة مع إسرائيل.
أوباما قرر تخفيف الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط بما لا يتوافق تماماً مع نهج سلفه جورج بوش الابن الذي قضى معظم فترتيه الرئاسيتين، هو وإدارته وجيشه في المنطقة، وجاء ترامب ليلغي الكثير من القرارات التي اتخذها أوباما، والاتفاقيات التي أبرمها، وفي مقدمتها منظومته للتأمين الصحي «أوباما كير»، وللحق فإن الكونجرس لم يوافق على قرار ترامب ليتم تعديله، بما يعني تقريب المسافات لإرضاء الرئيس والإبقاء على التأمين، ولكن بشروط مختلفة؛ وخارجياً اعتبرت إدارة أوباما أن الاتفاق النووي مع إيران من أهم إنجازاتها، بينما اعتبرته إدارة ترامب من خطايا السياسة الأمريكية عبر التاريخ، وقام ترامب بإلغائه بمجرد توليه الحكم.
إدارة ترامب لم تغير في قرارات إدارة أوباما فقط، ولكنها أدارت ظهرها لكل الإدارات السابقة، وانقلبت على أمريكا التقليدية، وقيم العولمة التي فرضتها عالمياً، ورفعت شعار «أمريكا أولاً»، وسارت في الاتجاه المعاكس للحلفاء التاريخيين، وانسحبت من منظمات دولية، واشتبكت سياسياً مع أنظمة كانت دائماً من الأصدقاء والمقربين، وتمردت على التنوع الذي تشكلت منه باعتبارها دولة متعددة الأعراق والديانات والثقافات والألوان، وأن الولاء فيها للعَلَم، والانتماء للوطن، بصرف النظر عن الجذور والأصول، وفرضت قيوداً على الهجرة، وحاصرت الملوّنين، وبنت جداراً يعزلها عن جارتها المكسيك، في محاولة لإغلاق الأبواب والنوافذ على ذاتها.
وجاء بايدن ليخلط الأوراق مرة ثانية، ويرفع شعار «أمريكا العائدة»، ولَم يقبل أن يمر يوم على إقامته في البيت الأبيض إلا وقد صحح الأوضاع وأصدر قرارات تلغي قرارات ترامب وتعيد أمريكا لحلفائها، وتمد اليد للتعاون في مواجهة قضايا الكوكب، وعلى رأسها المناخ و«كورونا»، وفي الوقت نفسه تهز لهم العصا من الهرولة وراء التنين الصيني، والدب الروسي، خصوصاً بعد أن تجاوزت بكين واشنطن وأصبحت الشريك التجاري الأول لأوروبا، والسعي للعودة للاتفاق النووي مع إيران بعد التعديل، كما عادت إدارة بايدن لتفتح الأبواب للهجرة، بل وتجنس ١١ مليوناً، وتوقف بناء الجدار.
لا ينكر أحد أن لكل رئيس جديد قناعاته ومواقفه وأولوياته التي يترجمها قرارات واتفاقيات، ولكن الانقلاب على السابق لم نعهده سوى من الرؤساء الذين تأتي بهم ثورة، أو يضعهم على كرسي الحكم انقلاب عسكري، ولكن الوضع الأمريكي قد يغير نظريات السياسة بعد أن غيّرت إدارتا بايدن وترامب معالم الدولة بانقلاب كل منهما على سابقه، ولعل الثوابت الوحيدة هي عدم المساس بإسرائيل، واتخاذ الصين عدواً، بجانب روسيا العدو التاريخي.