بقلم: يوسف الحسن – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– ترامب كرئيس سابق وبحكم طبيعته «المورغانية» فلا يتوقع أن يخلد إلى الراحة ويعتكف.. سيحتاج الحزب الجمهوري الأمريكي إلى سنوات لمحو ما تسببت فيه سلوكيات وسياسات الرئيس السابق ترامب من فوضى وعبث وقرارات طائشة في السياسة والمجتمع، وفي تقاليد انتقال السلطة الرئاسية .
صحيح أن مجلس الشيوخ ، وليس القضاء قد برأ ترامب ، وفي إطار الثنائية الحزبية الحاكمة للعملية الديمقراطية الأمريكية، إلا ان هذه التبرئة معيبة ، وحملته مسؤولية أخلاقية .
حوكم ترامب خلال ولايته مرتين ، بهدف العزل ، وأثار قاموسه المستفز الكثير من الزوابع والأزمات ، وأدار علاقات أمريكا الدولية بالتغريدات الفجة، واتخذ قرارات بلا حصافة ولا دراية، وأطلقها كقطار سريع بلا مكابح ، ولعب مع الغاضبين والعنصريين وجماعات الضغط المتطرفة ألعابا خطرة ، ولم يغادر المكتب البيضاوي بهدوء أو انصياع للنظام الانتخابي ونتائجه ، تشبث بالمكتب وبالأختام ، وبحالة إنكار ذميم للخسارة.
جاء ترامب إلى السياسة من بوابة ثقافة «الإغارة» المتجذرة في بيئة الاعمال والتجارة ، والتي تمارسها الشركات العملاقة للسيطرة على السوق ، وهي ثقافة جسورة تتجسد في الاستيلاء «العدائي» على المنافسين، ولعل ترامب وهو يوجه الغاضبين ومجموعات يمينية شبه مليشاوية تتبنى العنف وحمل السلاح مثل حراس القسم للإغارة على مبنى الكونجرس ، وأثناء انعقاده ، كان يستدعي ما في ذاكرته وخبراته من فلسفة لقرصان ذكي شهير في القرن السابع عشرهو (الكابتن مورغان) من أصول انجليزية، والذي كان يرابط في جزر نائية في وسط المحيط الأطلسي والكاريبي ليغير على سفن القراصنة الآخرين في عرض البحر ،العائدين من غزواتهم ، والمحملين بالغنائم والكنوز ،والمجهدين من الإغارة والقتل، فيسلبهم حمولاتهم (صناديق الاقتراع في حالة ترامب ).
ذاع صيت هذا القرصان ، وصال وجال ، واستولى على جزر ومدن في بيرو وبنما وجمايكا وغيرها، واعتبره المجتمع البريطاني بطلاً قومياً حينما حارب سفن الإسبان ، ومنحه الملك تشارلز الثاني لقب فارس ، وترك تاثيراً في الثقافة الشعبية الغربية في تلك الأزمنة، حينما كانت الشمس لا تغرب عن الإمبراطورية البريطانية، (لكي لا يهرب قراصنتها في جنح الظلام )، وورثت أسرته وأحفاده ثروة هائلة أسست بها البنك الأشهر في العالم (مورغان ستانلي) في نهاية القرن الثامن عشر في نيويورك .
تنامت التيارات الشعبوية والعنصرية والمتطرفة في فترة تولي ترامب للرئاسة ، وحضرت بقوة في السياسة والمجتمع والمؤسسة الحزبية الجمهورية ، وصعدت معها القوى الإنجيلية المسيحية، التي دفعت بقيادات من أتباعها لشغل مناصب تنفيذية وتشريعية وقضائية مهمة حول الرئيس ، بدءاً من نائبه بنس ، ووزير خارجيته بومبيو وآخرين، ويمكن القول أن هذا الصعود هو الموجة الثالثة لليمين المحافظ الجديد والأصولي، وكانت الموجة الأولى في عهد الرئيس الأسبق ريجان ، والتي توجت بانهيار الاتحاد السوفييتي ، والثانية في عهد بوش الابن ، ورؤوس ساخنة من حوله ، والتي أغارت على العراق واحتلته تحت ذرائع واهية ، وفتحت بواباته لإيران سداحاً مداحاً ، ومن غير أن تطلق إيران رصاصة واحدة.
وقد رأت هذه التيارات الشعبوية والأصولية المتطرفة، في شخصية ترامب الصدامية أكثر من اللازم زعيماً وقائداً لخياراتها السياسية والاقتصادية والهوياتية البيضاء الإنجلوسكسونية البروتستانتية (الواسب) ، وشكلت هذه التيارات تحالفاً مع قوى عنصرية لها جذورها وقواعدها في الولايات الريفية والجنوبية، وتؤمن بتفوق العرق الأبيض،ومدعومة من قطاعات نيوليبرالية متوحشة ، وجمعيات شبه مليشياوية كانت تحمل السلاح وتتنقل بين عدد من الولايات قبيل الغارة على الكونجرس.
حسنا ً… أُخرج ترامب من البيت الأبيض مرغماً ومنكراً لخسارته في الانتخابات ، لكن لم تخرج القوى الشعبوية والعنصرية والإنجيلية المتطرفة من السياسة أو من المجتمع ، أو حتى ٬من الحزب الجمهوري ، ولم تتبخر منظومات قيمية وإيدولوجية تتبناها هذه القوى،. صحيح أنها خسرت معركة ،لكنها حفرت توجهات وعززت مفاهيم متطرفة في مقابل بزوغ مخاوف مضادة في الضفة الأخرى .
أما ترامب كرئيس سابق ،وبحكم طبيعته «المورغانية»، فلا يتوقع أن يخلد إلى الراحة، ويعتكف في مزرعته أو في منتجع للعب الجولف أو التفرغ لتربية كلب أليف على طريقة بوش الابن ، أو تأسيس مؤسسة خيرية على غرار الرئيس الاسبق كارتر، أو إلقاء محاضرات مثل كلينتون ، …الخ
سيبقى ترامب في المشهد العام، وسيسعى لتشكيل كتلة جمهورية، وربما يؤسس مشروعاً إعلامياً مثيراً ،لكن من الصعب أن ينشئ حزباً ، بحكم وجود النظام الثنائي الحزبي ، وفقاً للنظام السياسي الأمريكي، ولعله يسعى لأن يكون في موقع صانع للألعاب، أو صانع للرؤساء.
ومن المفارقات المدهشة أن العالم وهو يشاهد ترامب منكراً هزيمته ومتشبثاً بالبيت الأبيض ، شاهد أيضاً المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل وهي تحزم حقائبها بهدوء ، وتغادر الى شقتها، لم تتفوه بكلمة نابية طوال ثمانية عشر عاماً من قيادتها لبلدها، ولم نسجل ضدها أي تجاوزات ووقف الشعب الألماني كله لعدة دقائق مصفقاً لها ومودعاً.
لو واصلت أمريكا الإنصات لتغريدات وتقلبات ترامب ، فإنه لا محالة ، سيرشح العرق من جبينها خجلاً ،ولصارت اخطر قضايا حقوق الإنسان مطروحة على أرصفة العالم٬ لكن ستبقى أمريكا قادرة على احتمالات الفشل وتخطيه.