By: Mark Leonard
الشرق اليوم- بعد عقود من الحرب الباردة، ما تزال روسيا العدو بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى مع قدرة لا مثيل لها على إثارة غضب الطبقة السياسية في أوروبا ولكن حدة المناقشات والمشاعر الأوروبية تجاه روسيا تخفي زيادة التوافق والذي يعكس مقاربة جديدة تجاه نظام الرئيس فلاديمير بوتين.
في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة كان الأوروبيون منقسمون بشكل عميق فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا فألمانيا بقيادة المستشار آنذاك غيرهارد شرويدر كانت تريد التواصل معها بينما سعت دول وسط وشرق أوروبا الى الاحتواء وفي الظاهر فإن مناقشات اليوم المتعلقة بنورد ستريم 2 وهو خط انابيب مثير للجدل سوف ينقل الغاز الروسي بشكل مباشر لألمانيا واضطهاد الكرملين لزعيم المعارضة الروسية اليكسي نافالني يبدو انها أمور تعزز من ذلك الانقسام القديم ولكن الواقع مختلف تماما.
لم يعد لدى أوروبا أي أوهام بإن روسيا تسير باتجاه ديمقراطية ليبرالية والتي يمكن تسريعها من خلال التواصل معها كما انتهت فكرة إن الدول التي تستهدفها روسيا هي في ورطة بسبب التصرفات المستفزة لتلك الدول.
ان الأوروبيين متحدون في الغالب فيما يتعلق بالحاجة لردع روسيا من القيام بمغامرة اجنبية أخرى ولقد حافظوا على ثلاثة برامج قاسية للعقوبات بدون انقطاع وذلك بعد غزو روسيا لأوكرانيا سنة 2014 وضمها لشبه جزيرة القرم وبالإضافة الى ذلك فإن العديد من دول الاتحاد الأوروبي أصبحت تزيد من انفاقها العسكري ووافقت على إجراءات الناتو من اجل التصدي للعدوان الروسي.
على الرغم من الخلافات المتعلقة بنورد ستريم 2 فإن أوروبا أكثر توافقا كذلك فيما يتعلق بسياسة الطاقة ففي منتصف العقد الأول من الالفية الثالثة كانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جزر طاقة منعزلة كان يتوجب عليها التعامل مع الدب الروسي لوحدها واليوم فهي جزء من سوق الطاقة الأوروبي المتكامل والذي يمكنه ان يضمن امدادات الطاقة للبلدان -بما في ذلك أوكرانيا عبر انابيب التدفق العكسي من أوروبا الغربية- التي يقطع عنها الكرملين الطاقة وهذا يخفف بشكل كبير من التأثير الروسي على دول أوروبا الشرقية.
لقد كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية ولأكثر من عقد من الزمان يتناوبان التنقل بين مراحل التواصل والمواجهة مع روسيا ولقد كانت الزيارة التي اجراها مؤخرا جوزيب بوريل الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية لروسيا هي الأخيرة ضمن سلسلة طويلة من المحاولات الفاشلة لإعادة ضبط العلاقات والسعي لتعاون اعمق مع روسيا مما لا يترك مجالا للشك بعدم تقبل الكرملين لمثل تلك الجهود ولكن أي تصعيد حاد محتمل في عقوبات الاتحاد الأوروبي ردا على معاملة الكرملين لنافالني يخاطر بمنح بوتين العدو الخارجي الذي يحتاجه لتشتيت الانتباه بعيدا عن مشاكله الداخلية .
ان بوتين موجود بالسلطة منذ فترة طويلة جدا ولقد بدأ يفقد قبضته على المجتمع الروسي وكنتيجة لذلك تدخل روسيا في فترة من الانحدار والاضمحلال. ان الشيخوخة في البلاد في تزايد بينما ينخفض الدخل الحقيقي للطبقة المتوسطة ولقد فشل بوتين في تنويع الاقتصاد علما ان الطلب العالمي على الهيدروكربونات سوف ينخفض خلال العقد القادم.
بالإضافة الى ذلك فإن نافالني يعتبر اول خصم سياسي يمكن ان يشكل تهديدا حقيقيا لبوتين فنافالني أصغر سنا وأكثر وسامة من بوتين وأشجع منه وهو لا يعتبر ليبرالي أو صاحب توجه عالمي ولقد بنى بنية تحتية في الاتصالات يكافح الكرملين من اجل السيطرة عليها.
لكن ضعف نظام بوتين يزيد من خطورة نافالني. ان نافالني لا يعد منافسا بعد لبوتين بالنسبة للدعم الشعبي وربما لن يصبح منافسا له على الاطلاق وان كان من المؤكد انه المنشق الأبرز حاليا.
في الوقت نفسه فإن بعض القادة الأوروبيين يدعون لتحرك أكبر من قبل الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا. لقد سعى أنصار التواصل مع روسيا مثل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لإعادة إطلاق الحوار مع الكرملين بينما أنصار الاحتواء مثل الرئيس الليتواني غيتاناس ناوسيدا يفضلون تشديد العقوبات ولكن مرة أخرى فإن هذا الجدل يخفي مدى التقارب ضمن الاتحاد الأوروبي بشأن روسيا.
بينما تصبح الصين أكثر قوة ومشاركة على الصعيد العالمي، فإن العكس صحيح بالنسبة لروسيا وعليه فإن الاتحاد الأوروبي يجب ان لا يكون في عجلة من أمره إما للتواصل مع نظام بوتين أو فرض ازمة دبلوماسية وعوضا عن ذلك يجب على الاتحاد الأوروبي ان يحرم بوتين من الشيء الذي يسعى اليه بشدة وهو الاهتمام السياسي وعليه بدلا من ان يكون موقف الاتحاد الأوروبي متذبذبا بين إعادة ضبط العلاقات والتشدد، يتوجب على الاتحاد السعي لتبني نهج بديل والذي يمكن ان نطلق عليه ” اللامبالاة المبدئية ” أو ” التواصل المتشدد”.
بادىء ذي بدء يتوجب على أوروبا ان تكون واضحة فيما يتعلق بمصالحها مع تعزيز امن الاتحاد الأوروبي. ان زيادة القدرات العسكرية والسيبرانية وتلك المتعلقة بمكافحة التجسس والطاقة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يساعد في تحسين مكانة الاتحاد في روسيا وبالإضافة الى ذلك يتوجب على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية الاتفاق على مقاربة مشتركه تجاه روسيا – مع تعليق العمل بنورد ستريم 2 في هذه الاثناء- وذلك حتى لا يتشجع بوتين على اثارة طرف ما ضد الطرف الاخر.
ان البعد الثاني لمثل هذه المقاربة يجب ان يكون تقييد السياسة الخارجية الروسية. صحيح ان العقوبات الغربية والمشاكل الداخلية في روسيا نفسها تعني ان لدى روسيا حاليا أموال واهتمام أقل ببيلاروسيا ومولدوفا وأوكرانيا وأرمينيا ولكن مهما يكن من امر يتوجب على الاتحاد الأوروبي الرد بقوة على اي استفزازات واعمال عدوانية من جانب الكرملين وبالإضافة الى ذلك يتوجب على الدول الأعضاء البدء في الاستثمار بالشراكات العسكرية والأمنية مع بلدان مثل أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وفك الارتباط بين مثل تلك المبادرات وقضية توسيع حلف الناتو كما يمكن للاتحاد الأوروبي كذلك التواصل مع تركيا ضمن حوار يتعلق بروسيا والقضايا الأمنية المتعلقة بالبحر الأسود.
ان تحسين التنسيق عبر الأطلسي بشأن روسيا هو أمر أساسي. ان تواصل الاتحاد الأوروبي من جانب واحد مع الكرملين يقوض مكانته في كلا من موسكو وواشنطن كما لم يؤدي ذلك التواصل لأي نجاح يذكر.
لا شيء مما ذكر أعلاه يعني ان على الاتحاد الأوروبي تجنب الحوار مع روسيا ولكن من الأفضل ان يقتصر مثل هذا الحوار على المنتديات متعددة الأطراف مثل منظمة الامن والتعاون في أوروبا أو مجلس القطب الشمالي. ان النقاشات مع روسيا- سواء تلك المتعلقة بالتغير المناخي أو اللقاحات أو التأشيرات – يجب ان تكون على مستوى التكنوقراط وبدون الضجة الدبلوماسية أو العواطف التي ميزت محاولات التواصل الأخيرة.
ان الوقت لا يصب في مصلحة بوتين ولو رد الاتحاد الأوروبي بحزم وبدون عواطف على عدوان الرئيس الروسي، فإنه سيكون بإمكان الاتحاد الأوروبي احتواء تأثيره الخبيث وبدون مساعدة محاولاته ومنها تصنيف نافالني كعميل أجنبي ومن المفارقات ان أفضل طريقة بالنسبة للقادة الأوروبيين لزيادة الرغبة بالتواصل البناء ضمن الكرملين هو ان لا يبدي القادة الأوروبيون اهتماما كبيرا بمثل تلك الرغبة. دع بوتين يأتي إليهم.