بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- الانتخابات المبكرة في العراق والمقررة في العاشر من أكتوبر المقبل، إذا ما تحققت، فهي تعني من جانب الأحزاب الإسلامية التقليدية والمُستحدثة تكثيف جهودها بأساليب وأدوات ومظاهر جديدة للحفاظ على مواقع الحرس الشيعي القديم، وعدم الوصول إلى حافة الهاوية أمام تنامي قوة الميليشيات الولائية ومحاولاتها عبر السلاح أخذ مكانة مؤثرة في البرلمان المقبل، مع ما تشكله دعوة مقتدى الصدر إلى الفوز برئاسة الوزارة من مخاطر جدّية على هذا المشروع.
ثورة أكتوبر 2019 العراقية فرضت حقائق جديدة في الواقع السياسي لا تتمكّن قيادات سلطة الشيعة من تجاهلها؛ عطّلت شغل ستة عشر عاما من لعبها على صناعة الأعداء المُفترضين، من العرب السنة، تحت عنوان “مخاطر الإرهاب والبعثيين على العملية السياسية” من أجل الاستمرار في حكم إمبراطورية الفساد، وفرضت هذه الثورة أمام الرأي العام العالمي والولايات المتحدة بشكل خاص حقيقة أن تخليص البلد من الانهيار الذي يعيشه هو إزاحة الفاسدين عبر الانتخابات النزيهة وبإشراف دولي وإقامة حكم المواطنة العراقية.
استشعرت طهران بدقة هذه المخاطر على نفوذها في العراق، ووجدت أن انطلاق الثورة الشعبية من داخل الوسط الشيعي العراقي تعني إزاحة المشروع الطائفي، وتعريض الزعامات التي اعتمدت عليها منذ عام 2003 للتغيير السلمي، وفق الآليات الديمقراطية التي وظفتها لصالحها منذ عام 2005.
ما يحتاجه بايدن لكي لا يصبح كأستاذه أوباما، مبررا لجرائم النظام الإيراني وإبقاء شعب العراق رهينة بيده، هو أن يفتح عينيه ويتحمّل المسؤولية التاريخية إن كان يريد الحصول على مكانة متميزة عن سابقيه من الرؤساء
كان عليها الدخول في تدابير عاجلة عبر مسارين متوازيين نفذهما الجنرال قاسم سليماني بدقة قبل مقتله، في الثالث من يناير 2020، واستمرّ المشروع في ما بعد رغم ارتباكه. المسار الأول، مواجهة عقوبات الرئيس السابق دونالد ترامب ضد طهران داخل العراق باستثمار حالة التعاطف الشعبي العراقي مع الشعارات المعادية للاحتلال الأميركي الذي جلب هؤلاء الفاسدين، وتنفيذ هجمات صواريخ الكاتيوشا ضد السفارة والجنود الأميركان ببغداد وضواحيها. والمسار الثاني، استهداف دموي مباشر وإعدامات ميدانية لأبرز الناشطين في الثورة الشبابية وإطلاق حملات تشويه لسمعة الباقين على الحياة منهم بأوصاف العمالة للولايات المتحدة.
وباء كورونا كان العامل الأول في إخماد الاعتصامات الشعبية الجماعية، خاصة في ميداني التحرير ببغداد والحبوبي في الناصرية. كذلك الخطوة الوقائية لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بسحب بعض نشطاء الثورة إلى مواقع وظيفية في مجلس الوزراء ووعوده بحمايتهم ودعمهم ماديا ومعنويا بدخول الانتخابات، ما أفرز عددا من الكيانات داخل قوائم المرشحين للانتخابات، وسط انتقادات كثيرة من داخل أوساط الشباب حول عدم تطابق هذا الأسلوب مع منهج الثورة.
اعتقدت طهران خطأ أنها تمكنت من إخماد الثورة الشبابية وأن الطريق أصبح مُمّهدا أمام أعوانها للحفاظ على مواقعهم السلطوية في انتخابات أكتوبر المقبل، وأن مجيء جو بايدن للبيت الأبيض سيؤدي إلى عودة إيران معافاة كما حصل لها عام 2015. لكن ما لم تضع طهران له حسابا دقيقا هو أن نتائج سيطرة مشاعر الغرور تقود أصحابها إلى ارتكاب الكوارث، فدفعت بأعوانها إلى شن هجوم صاروخي على قواعد أميركية ومناطق سكنية قرب مطار أربيل في إقليم كردستان.
هذا التصرّف الأحمق وضع الرئيس الأميركي الجديد الحالم بعقد صفقة الاتفاق مع طهران أمام خيارات سياسية صعبة، لم يُعقب على الحادث الإرهابي، كما كان ترامب يفعل، واكتفى المتحدث باسم البيت الأبيض بعبارة “اطّلع الرئيس”، وسط مطالبات خبراء سياسيين في واشنطن بضرورة الانتباه إلى الفخ الذي تنصبه طهران لبايدن.
صدر موقف أميركي لافت داخل مجلس الأمن الدولي خلال مناقشات ملف الانتخابات العراقية بعد واقعة هجوم أربيل، حيث اضطرّ مساعد السفير الأميركي لدى مجلس الأمن الدولي ريتشارد ميلز إلى إدانة النفوذ الإيراني في العراق، معتبرا أن أحد أبرز العوائق أمام تهيئة بيئة مواتية لإجراء انتخابات سلمية وشاملة تمتاز بالمصداقية هو وجود فصائل مسلحة ومتطرفين ومخرّبين قائلا “يجب علينا مواجهة الفصائل المسلحة المدعومة من إيران وأنشطة طهران التي تزعزع استقرار العراق”.
يبقى الكلام الأميركي جميلا ينقل الحقيقة المعروفة وفيه قلق على ما سيحصل بعد سبعة أشهر، لكن هل يُصدّق العراقيون بأن الولايات المتحدة، الدولة الأولى في العالم التي تتحمل مسؤولية مباشرة عن كل ما حصل في بلدهم، قادرة على إقناع الضحية بأن الإدانة الإعلامية كافية، أم إنها تتحمل مسؤولية مباشرة لإيقاف الجريمة المستمرة ومسح آثارها بتعطيل مفاعيل النظام الخادم لها.
في السنوات القليلة الماضية حين كنا نسأل أيّ سياسي أميركي، قريب من دوائر صنع القرار، لماذا لا تفتحوا عيونكم على ما يجري من فظائع في العراق وتساندون النخب العراقية الوطنية في عملية التغيير السياسي السلمي؟ كان الجواب هو عدم مشاهدتنا لقوى ميدانية فاعلة على الأرض يمكن دعمها. اليوم هل توجد قوة سلمية أكبر من ثورة شباب أكتوبر تتعرض للقمع لإنهائها مثلما حصل للثورة الخضراء ضد نظام الملالي في إيران. ما حصل في الواقع ليس دعما لثوار أكتوبر من أيّ جهة على الأرض، إنما العقاب الجماعي من قبل الميليشيات على تهمة العمالة للولايات المتحدة التي لا وجود لها.
لا يحتاج الأميركيون والأوروبيون، الذين يحاولون اليوم ابتداع مختلف الحيل الدبلوماسية لجلب طهران للحوار، إلى أدلة ووقائع للجرائم ضد الإنسانية التي وقعت على العراقيين من قبل ميليشيات الأحزاب الموالية لإيران، فالملفات موجودة لدى مستشاري بايدن. الثمن الأكبر دفعه العرب السنة منذ عام 2003 ثم تلاهم شباب ثورة أكتوبر عام 2019 وأخيرا يأخذ الأكراد حصتهم من إرهاب الميليشيات الذين طلبوا من مجلس الأمن الدولي التدخل.
من شواهد جرائم القتل الممنهج حديث على إحدى الفضائيات العراقية قبل أيام لشقيق المغدور به محافظ البصرة الأسبق محمد مصبح الوائلي، حول حقيقة فرق الموت في البصرة، التي ألقي القبض على البعض ممّن سماهم أصابعها، وليست الرؤوس، من قبل الأجهزة الاستخبارية، وهروب المجرمين الرئيسيين المتورطين إلى إيران عبر الأهوار بمساعدة الحرس الثوري الإيراني. لا شك أن خطوة مصطفى الكاظمي جريئة في إلقاء القبض عليهم، ولاقت ارتياحا من ذوي الشهداء في البصرة.
لا يحتاج الرئيس الأميركي بايدن، الذي يجد نفسه وسط حرارة الملف العراقي، إلى شهادات ووثائق جديدة وهو يمتلك الآلاف منها عن أولئك الذين كان يزورهم ببغداد على أساس أنهم قادة وحكام للعراق “الديمقراطي الجديد”، ثم أصبحوا رموزا للتورط وتغطية مسلسل جرائم الميليشيات، وللفساد الذي حوّل شعب العراق إلى جائع قلق خائف. ما يحتاجه بايدن لكي لا يصبح كأستاذه أوباما، مبررا لجرائم النظام الإيراني وإبقاء شعب العراق رهينة بيده، هو أن يفتح عينيه ويتحمّل المسؤولية التاريخية إن كان يريد الحصول على مكانة متميزة عن سابقيه من الرؤساء. وهو قادر على ذلك.
بايدن يتقن التلويح بسيف حقوق الإنسان على طريقة الديمقراطيين، فمنذ الأيام الأولى لحكمه تعامل مع السعودية وفق ملف حقوق الإنسان، على هامش مقتل صحافي سعودي، مُعرّضا علاقات الصداقة والتحالف التاريخية بين واشنطن والرياض للخطر. لكنه لم يستل هذا السيف إلى حدّ اللحظة ضد قتلة عشرات السياسيين والصحافيين والكتّاب والمحامين والأطباء العراقيين خلال ثمانية عشر شهرا فقط. ولا أسمح لنفسي بذكر أسماء بعضهم لأن أبناء قافلة الشهداء جميعهم يتقاسمون هذا الشرف العظيم.
مهما حاول الرئيس بايدن تنحية الملف العراقي جانبا، والانشغال بما هو أهمّ من ملفات خارجية، ستجبره الأحداث في العراق على التعاطي معها واتخاذ قرارات خلال عام 2021 المثقل بأرشيف مخزٍ لحكام بغداد. إنه بيده الخيار بين تلقي لعنات العراقيين أو إنصافهم وهو قادر على ذلك.
ثورة أكتوبر 2019 العراقية فرضت حقائق جديدة في الواقع السياسي لا تتمكّن قيادات سلطة الشيعة من تجاهلها؛ عطّلت شغل ستة عشر عاما من لعبها على صناعة الأعداء المُفترضين
الانتخابات المبكرة فرصة ذهبية لواشنطن في التعاطي مع الملف العراقي برغبة جدّية لحماية العراقيين وإعطائهم الفرصة للتعبير عن أصواتهم بحرية، بما يتماشى مع التقاليد الديمقراطية العالمية، وفق مبررات واقعية قدمتها ممثلية الأمم المتحدة ببغداد، التي تعمل حاليا وفق عهدة مجلس الأمن الدولي، وفرض إشراف أممي يبعد الميليشيات وسلاحها عن بيئة الانتخابات.
دول العالم ستشجع هذه الفرصة ما عدا الأحزاب الحاكمة وميليشياتها في العراق. والسؤال المهم هل سيصلح بايدن خطايا سابقيه، كلينتون وبوش الأب وبوش الابن وأوباما تجاه العراقيين، وفق سياسة تنسجم مع شعاراته في القرن الحادي والعشرين؟
الملايين من العراقيين الذين فقدوا أحباءهم من الآباء والأبناء والإخوة والأزواج عبر ثماني عشرة سنة، يجيبون بأن بايدن لن ينال مثل هذه المكانة والشرف اللذين ينتظرهما. لكن ما يعتقده المشتغلون في السياسة الوطنية العراقية من خارج سلطة الأحزاب، نعم، سيصلح بايدن أخطاء سابقيه إن أراد وضع بصمة إنسانية تضعه في موقع لائق عبر التاريخ.