بقلم: عبد الحق عزوزي – صحيفة الاتحاد
الشرق اليوم- رأينا السبوع الماضي كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية عرفت في تاريخها فترات من الانعزالية (isolationnism)) والتدخل (interventionism)، وكيف أن المرحلة الحالية لإدارة الرئيس الـ46 للولايات المتحدة الأمريكية تشكل فترة حساسة تحاول من خلالها أن تحدث بوناً شاسعاً مع الفترة الترامبية السابقة، وتراجع تواجدها وتأثيرها على النظام العالمي.
وفي بداية هذا الشهر، كشف الرئيس جو بايدن، في خطاب أمام موظفي وزارة الخارجية في واشنطن عن الخطوط العريضة للدبلوماسية الأمريكية الجديدة. وقال بالحرف: “أمريكا عادت. الدبلوماسية عادت”، فيما تعهد بـ”بناء تحالفات دولية جديدة”، مع التصدي بقوة لروسيا والصين، في خطوة منه لإنهاء السياسة التي اتبعها ترامب تجاه هذين البلدين.
كما أن حديثه يوحي أيضاً بوأد القاعدة الانعزالية الترامبية التي تقول: “أمريكا أولاً”، والتي كانت تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي طبعت سياسات كل رؤساء الولايات المتحدة في المائة سنة الأخيرة. وبمعنى آخر فإن الرؤية التقليدية لأمريكا عن العالم بدأ يحييها الرئيس بايدن الذي سيقوم بطي صفحة الانكماش الاستراتيجي الذي أتى به سلفه والذي غيّر الكثير من الأمور في العلاقات الدولية والتجارية والاقتصادية والعسكرية.
كان ترامب يرى نفسه صاحب ورئيس شركة تملك العالم، بينما الرئيس بايدن سيعتبر نفسه رئيساً لدولة عظمى هي دركي العالم، وهنا الفرق! فكل دولار تنفقه أمريكا على المنظمات الدولية، وكل اتفاقية تجارية ولو كانت خاضعة للقواعد التجارية العالمية، كان يخضعها ترامب لميزان “أمريكا أولاً”، بينما كان أسلافه من الرؤساء الأمريكيين، وكذلك الرئيس الحالي، مقيدين جميعاً بأعراف دبلوماسية وأخلاقية واستراتيجية وتقاليد تفرض على الولايات المتحدة تواجداً يصفق له في المؤسسات والمحافل الدولية، ويجعلها تحترم الاتفاقيات الدولية، وتسير على المألوف وتحترم التحالفات وبالأخص مع الدول الغربية.. كل هذا بدأ يخرج مرة أخرى إلى الوجود.
وهناك سلسلة من القرارات أعلن عنها الرئيس بايدن، من بينها تجميد سحب القوات الأمريكية من ألمانيا، وكان ترامب قد أعلن عن خطط لسحب حوالي 12 ألفاً من القوات الأمريكية هناك، في خضم خلاف طويل مع برلين بشأن الإنفاق الدفاعي. ولدى الولايات المتحدة حالياً حوالي 34 ألفاً و500 جندي متمركزين في ألمانيا، الحليف الوثيق في حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
كما أعلن بايدن عن موقفه من العمليات العسكرية في اليمن، وبدأ بتغيير اللهجة تجاه روسيا في قطيعة واضحة مع السياسة الدبلوماسية التي انتهجها سلفه ترامب. ودافع بايدن عن القيم التقليدية للدبلوماسية الأمريكية (مثل تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان) التي تخلى عنها ترامب. وبغية التأصيل لهذه “القيادة الأخلاقية” على الساحة الدولية، أعلن بايدن أن الولايات المتحدة ستستقبل في السنة المالية المقبلة 125 ألف لاجئ في إطار برنامج إعادة التوطين، أي ثمانية أضعاف الذين استقبلوا هذا العام (15 ألفاً). كما مددت أمريكا العمل بإجراء مؤقت يسمح لآلاف السوريين بالبقاء على الأراضي الأمريكية رغم انتهاء تأشيراتهم، وذلك في ظل تواصل الحرب في بلدهم والتي “تمنع المواطنين السوريين من العودة بأمان”. وقام الرئيس الأمريكي بالتوقيع على عدة مراسيم في مجال الهجرة، تغير في العمق قوانين جاء بها ترامب في هذا المجال.
كما حذر بايدن من انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، ومن الممارسات التجارية غير العادلة لبعض الدول، وشدد على أن الولايات المتحدة تعطي أولوية للحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة، وهي منطقة تمثل مجال تنافس استراتيجي بين الولايات المتحدة والصين. ويضاف إلى كل هذا ما رأيناه الأسبوع الماضي من إعلان عن عودة أمريكا إلى اتفاق باريس لحماية المناخ، والبقاء في منظمة الصحة العالمية، وإيلاء المزيد من الاهتمام للمشاكل العالمية، ومحاولة الشروع في حل بعض الأزمات.. إلخ. وكل هذا يوحي بعودة جزء كبير من الإرث الدبلوماسي الأوبامي إلى الواجهة، وتأييد التعاون متعدد الأطراف في إطار المنظمات الدولية… والقضاء على الأحادية والانعزالية اللتين ميزتا إدارة ترامب.