بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– يحفل تاريخ المشرق العربي بحالات سوء استخدام لمفهوم الوطنية، جعلت من هذا المفهوم مقروناً بأيديولوجيا السلطة، سعياً منها لإضفاء طابع الوطنية على ممارساتها السياسية، خصوصاً وأنها سعت إلى تكريس الوطنية كمفهوم أحادي بوصفها حدّاً على الخارج، الذي تنوعت صوره في العديد من المراحل، لكنه بقي من حيث الجوهر يمثل الخطر الداهم، بوصفه عدواً متربصاً. ولم يكن صعباً تكييف الوقائع التاريخية، ما قبل “سايكس بيكو”، وما بعده، في خدمة سردية للهوية الوطنية لا تنظر إلى نفسها إلا كتضاد مع الخارج الاستعماري.
في التاريخ التأويلي المعاصر للمفاهيم، سادت حالة من الحذر في مقاربة مفهوم الوطنية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تجنّب معظم المفكرين والفلاسفة مفهوم الوطنية، فقد أرخت الحركتان النازية والفاشية بظلالهما السوداء ليس على العلاقات الدولية وحسب، وإنما أيضاً على الحقول المعرفية والأكاديمية، فقد أصبحت الوطنية مطابقة إلى حد بعيد لمفهوم التعصب القومي، واستعلاء عرق على أعراق أخرى، لذلك جنحت معظم الدراسات الغربية في حقل الوطنية إلى التعاطي مع المفهوم بدلالات شعورية محضة، حيث تمّ ربط المفهوم بالفرد بشكل مباشر، من دون أي وسيط خارجي، كما في تصوّر الفيلسوف الأمريكي ستيفن ناثانسون الذي حدّد أربعة عناصر لمفهوم الوطنية ، وهي وجود عاطفة خاصة للفرد تجاه بلده، وإحساسه بالتماهي مع بلده، واهتمامه الخاص بخير وصالح البلد، واستعداده للتضحية لتعزيز خير البلد.
إن وضع المعايير الرئيسية المحددة لمفهوم الوطنية على عاتق الفرد، وتحديدها بالمجال الشعوري، قد يكون له ما يبرره في محاولة إبعاد الوطنية عن أي استثمار أيديولوجي، لكن في المقابل لا يمكن اعتماد الحقل الشعوري معياراً وحيداً وكافياً في تحديد مفهوم الوطنية، إذ لا يمكن تصوّر الفرد المعاصر خارج فكرة الدولة الحديثة، إلا إذا تخيلنا الفرد خارج أي إطار سياسي قانوني، وهو أمر غير ممكن من الناحية الواقعية، وبالتالي فإن فكرة الدولة تبقى فكرة مركزية لا يمكن التفكير بعيداً عنها في بناء مفهوم الوطنية، أو حتى ترسيخها شعورياً، كما أن تبدل أحوال الدولة تقدماً أو تراجعاً هو عامل أساسي في تبدّل الشعور الوطني، فالشعور ليس بنية منعزلة عما حولها، بل هو في أحد أشكاله انعكاس لمعطيات العالم الواقعي على الصعد كافة.
المشهد السياسي العام في المشرق العربي هو مشهد كارثي، حيث أن الفاعل الأكبر في الأحداث هو البنى ما دون الوطنية وتمثيلاتها السياسية، حتى أن صيغ الحكم وممارساته هي انعكاس للصراع بين تلك البنى، وقد أتت تلك الصراعات على ما تبقى من فكرة الدولة وفاعلية مؤسساتها، بل أن أبسط تعريفات الدولة المتعلقة بسيادة الدولة على أراضيها لم تعد تنطبق على دول المشرق العربي، فتلك السيادة منتهكة من قبل قوى محلية وخارجية، ما يجعل الحديث عن أزمة المشرق البنيوية يقع بالضرورة في نطاق الدولة بالدرجة الأولى، والتي لم تعد بحسب صورتها الراهنة تعبر عن هوية وطنية جامعة، بل عن انقسام الهويات المجتمعية، وأزمة غياب النخب الوطنية، أو انعدام فاعليتها في الحقل السياسي.
وإذا نظرنا إلى الجانب الشكلي للدولة الحديثة، فإننا سنجده قائماً في دول المشرق العربي، فهناك حكومات وبرلمانات وقضاء وجيش ومؤسسات خدمية، لكن الدولة الحديثة كمفهوم ليست مجرد مؤسسات ذات طابع شكلي، بل هي نتيجة عقد وطني، تتلازم فيه قيم الوطنية والمواطنة معاً، وهي قيم لا تعادي الهويات الفرعية ما دون الوطنية، لكن تمنعها من التأثير على حقل الدولة، وبالتالي فإن الدولة الحديثة تضمن حق الجماعات في التعبير عن هوياتهم الفرعية في المجالات الاجتماعية والثقافية، لكنها لا تسمح لتلك الهويات أن تكون مؤثرة في السياسة، والمصالح العامة للدولة ومواطنيها. لم يعد ممكناً من الناحية العملية، ولا مفيداً، تحديد الوطنية كهوية على أساس أحادي كنقيض للخارج، بل يجب إعادة امتلاك المفهوم وتفعيله بوصفه مساراً لبناء الدولة الحديثة، أي دولة المواطنة والقانون، وهو بالضرورة يعني إعادة بناء الممارسات السياسية على أسس داخلية، ترتبط بالدرجة الأولى ببناء الدولة، مع الاعتراف بأن نموذج “الدولة الوطنية” الذي ساد لعقود في المشرق العربي لم يعد أمراً متاحاً، وبالتالي فإن الخروج من الحالة الكارثية الراهنة التي تشهدها دول المشرق العربي سيرتبط مدى نجاحه بمدى قدرة مجتمعات هذه الدول على إنتاج نخب سياسية جديدة، تركز على قيم المواطنة في بناء الهوية الوطنية، ما يجعل الوطنية نفسها برنامجاً واقعياً للحقوق والواجبات، بعيداً عن الإنشاء المعد للتوظيف الأيديولوجي والسياسي